ما بين 24 كانون الأول 2008, و23 ايار 2009, فاصل زمني ممتد على خمسة أشهر بالتمام والكمال. وما بين التاريخين «فبركة استخباراتية» واضحة لرسم خارطة طريق اتهامية لــ«حزب الله» باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وما بين التاريخين «فضيحة كبرى لمجلة كانت موصوفة بأنها موزونة وذات مصداقية».
في 24 كانون الأول 2008, وقبل أكثر من شهرين من انطلاق المحكمة الخاصة بلبنان في آذار الماضي, نشر موقع «الحقيقة», الذي يديره المعارض السوري نزار نيوف «معلومات» نسبها الى مسؤول قانوني كبير في عداد الطاقم المؤسس للمحكمة المذكورة, وتسلط أصابع الاتهام الى «حزب الله» باغتيال الحريري.
وفي 23 ايار 2009, نشرت «ديرشبيغل» الالمانية تقريراً كتبه اريك فولاث, ونسبه الى من سماها مصادر مقربة من المحكمة الخاصة, تضمن ما وصفها «نتائج جديدة وخطيرة للتحقيق, وتحققت عبر دراسة وثائق داخلية».
المثير في تقرير «ديرشبيغل», انه استنسخ رواية نزار نيوف المنشورة قبل خمسة اشهر, مستخدماً المفردات والتعابير ذاتها, من «التراجيديا الشكسبيرية», إلى «دوائر الجحيم» الأولى والثانية والثالثة, الى التواريخ, إلى الأسماء... كلها نقلتها الصيغة الألمانية بصورة حرفية تامة.
والمثير في تقرير «ديرشبيغل» انه اقتطف من تقرير نزار نيوف ما يشير الى القوات الخاصة لـ«حزب الله» اضافة الى اسماء الشهيد عماد مغنية وعبد المجيد غملوش والحاج سليم, والعبارات نفسها المتعلقة بالنقيب وسام عيد ووصفه بـ«البطل» وبـ«شارلوك هولمز», الا ان «ديرشبيغل» اقتطعت من تقرير نيوف كل ما سبق تاريخ الثالث والعشرين من ايار, خصوصا ما اشار اليه تقرير نيوف المستنسخ في «ديرشبيغل» بالنسبة الى تأكيد اطلاق الضباط الاربعة والأخوين عبد العال وابراهيم جرجورة, وايضا ما نسبه نيوف الى من سماه «مصدر فرنسي» نفى الرواية من اساسها، مشيراً الى «أن هذه الرواية نسجت في الرياض وواشنطن, وان شعبة المعلومات ستطلق اعتقالات واسعة ضد عملاء الموساد في لبنان قريباً بهدف تبييض سمعتها الوطنية, قبل إقدامها على اتهام حزب الله باغتيال الحريري».
ماذا جاء في تقرير نزار نيوف المنشور قبل خمسة اشهر:
يبدأ التقرير بسؤال: هل اكتملت فصول دراما شكسبير اللبنانية!؟ وأما في التفصيل, فيرد الآتي:
«بحسب المعلومات التي أفضى بها مسؤول قانوني كبير في عداد الطاقم المؤسس للمحكمة الخاصة بلبنان, فإن أصابع الاتهام ستوجه إلى حزب الله وقائده العسكري عماد مغنية، الذي اغتيل مطلع العام الجاري في دمشق، وكادرات من القوات الخاصة التابعة لحزب الله، على رأسها المدعوان عبد المجيد غملوش والحاج سليم، ومن خلفهما أحد ضباط الحرس الثوري الإيراني (الجنرال قاسم سليماني)، بينما ستتم تبرئة ساحة سوريا من الاتهام كلياً؟ لكن مصدراً فرنسياً خبيراً نفى لـ «الحقيقة» علمه بوجود قياديين عسكريين أو أمنيين في صفوف «حزب الله» يحملان الاسمين المشار إليهما»؟
«وبحسب المصدر القضائي الدولي، فإن رئيس لجنة التحقيق الحالي دانيال بلمار غيّر مسار التحقيق بعد أن وضع العقيد وسام الحسن، رئيس «شعبة المعلومات» بوزارة الداخلية اللبنانية، أدلة جديدة بتصرفه لم تكن متوفرة من قبل. وقد جاءت هذه الأدلة كما يقول المصدر «نتيجة لتزواج فراسة شارلوك هولمز وعبقرية التكنولوجيا» على يدي الرائد في الشعبة المذكورة، وسام عيد، الذي اغتيل في 25 كانون الثاني يناير الماضي بعد أن شعر «القاتل الحقيقي» بهذا التطور الحاصل في مجرى البحث عن الأدلة.
«الدائرة الأولى للجحيم»
وفي تفاصيل العملية كما وردت في تقرير العقيد وسام الحسن، قال المصدر إن الرائد وسام عيد استطاع في نهاية المطاف أن يحدد ثمانية أرقام لهواتف نقالة جرى شراؤها وتشغيلها في وقت واحد من مدينة طرابلس شمال لبنان قبل عملية الاغتيال بحوالى ستة أسابيع، وأن هذه الهواتف استخدمت فقط لمراقبة تحركات الحريري حتى يوم اغتياله. وتبين أن الاتصالات التي جرت فيما بين أصحاب هذه الهواتف كانت بمثابة «الدائرة الأولى للجحيم»، بينما كانت دائرتها الثانية عبارة عن 20 رقماً آخر لهواتف نقالة تبين أنها جميعها مملوكة لعناصر من حزب الله ينحدرون من الجنوب اللبناني، وبشكل خاص منطقة النبطية. وبحسب المصدر فإن أحد أصحاب الهواتف الثمانية (ويُدعى عبد المجيد غملوش، من بلدة رومين في جنوب لبنان) ارتكب خطأ غير محسوب حين بادر فور وقوع الانفجار إلى الاتصال بزوجته للتعبير لها عن «سعادته بسقوط أحد رؤوس عملاء إسرائيل الكبار في لبنان (رفيق الحريري) قبل أن تنقل وكالات الأنباء الخبر». ويقول المصدر إن التحقيقات أظهرت أن غملوش هو أحد أفراد القوات الخاصة في حزب الله، وأنه سبق له أن حصل على تدريبات عسكرية متقدمة في إيران، لكنه اختفى بعد اتصاله بزوجته مباشرة، ولم يظهر له أي أثر حتى الآن، وربما يكون قد قتل بطريقة ما من قبل حزب الله نفسه أو المخابرات الإيرانية بهدف تقطيع خيوط التحقيق في الجريمة؟
ويتابع المصدر رواية تقرير «شعبة المعلومات» فيقول: إن تقرير «الشعبة» يشير إلى أن الحاج سليم هو أحد أعضاء «المجلس الجهادي» في حزب الله، وقائد قواته الخاصة، والشخص الذي خلف مغنية على رأس المجلس الجهادي للحزب، وهو منصب يوازي منصب «رئيس الأركان» أو «قائد الجيش» في الجيوش النظامية. ويعاونه في ذلك الحاج مصطفى بدر الدين، شقيق زوجة عماد مغنية السيدة سعدى بدر الدين. حيث يرفع الإثنان تقاريرهما الأمنية والعسكرية إلى الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، فضلاً عن الجنرال الإيراني قاسم سليماني. ويضيف المصدر القول: إن تقرير «الشعبة» يشير إلى أن جهاز أمن حزب الله هو الذي تولى عملية شراء سيارة الميتسوبيشي التي استخدمت في التفجير ونقلها من اليابان إلى طرابلس، وإلى أن المواد المتفجرة المستخدمة، وهي أكثر من طن من مادتي TNT و C4 أو «الهيكسوجين»، مصدرها مستودعات حزب الله في منطقة الهرمل قرب بعلبك. والحزب هو الجهة الوحيدة في لبنان التي تملك كميات كبيرة من هذه المواد، بالنظر لأنه استخدمها على مدى سنوات طويلة في تجهيز العبوات الناسفة ضد المدرعات والقوافل العسكرية الإسرائيلية قبل تحرير جنوب لبنان وبعده».
ويشير تقرير نيوف المنشور قبل خمسة أشهر, الى «ان المعلومات المذكورة وضعت امام مرجع امني ـ دبلوماسي فرنسي كبير فأعرب عن شكوكه العميقة في صحة هذه المعلومات»، مشيراً إلى «أنها تحتوي على مغالطات غير منطقية، وتكشف عن أن من يقف وراءها يجهل تماماً آلية عمل «حزب الله» على الصعيدين الأمني والعسكري». وذكر المصدر في هذا السياق الملاحظات والمعلومات التالية:
1 ـ إن المعلومات المذكورة توحي بأن عناصر حزب الله يتصرفون بطريقة عشوائية وحمقاء وغير انضباطية، مثل أي تنظيم آخر. وهذا يتناقض كلياً مع ما يعرفه الجميع عن انضباطيته الصارمة. فبافتراض أن حزب الله هو الذي قام بالعملية، لا يمكن أن يقوم أحد عناصره المنفذين بالاتصال بزوجته ليخبرها عن الأمر!
2 ـ أصبح من الثابت والمعروف في تحقيقات «لجنة التحقيق الدولية» أن الذين اشتروا الأرقام الهاتفية المسبقة الدفع من طرابلس ينتمون لجهات أصولية سنية، وليس إلى حزب الله.
4 ـ أصبح من الثابت لدى لجنة التحقيق الدولية أن سيارة الميتسوبيشي فجرت من قبل شخص انتحاري ينتمي لإحدى الحركات الأصولية السنية وليس الشيعية، وينحدر من إحدى الدول العربية ذات المناخ الجاف، قد تكون السعودية أو العراق أو الأردن، وفق ما كشفت عنه التحليلات المخبرية لحمض DNA التي أجريت على بقايا أشلائه.
وكشف المصدر الفرنسي عن أن أول قرار ستتخذه المحكمة بعد انتقال الصلاحيات إليها من القضاء اللبناني هو إطلاق سراح الضباط اللبنانيين الأربعة المعتقلين على ذمة القضية (جميل السيد، ريمون عازار، علي الحاج، مصطفى حمدان)، فضلاً عن الثلاثة المدنيين الآخرين (من عائلة عبد العال).
كما كشف المصدر عن أن المخابرات السعودية والأميركية وشعبة المعلومات ستبذل وسعها لإثبات تورط حزب الله، من خلال مسؤوله العسكري عماد مغنية وأمينه العام حسن نصر الله، باغتيال الحريري، لأنها الطريقة الوحيدة للقضاء على الحزب ووضع نهاية سياسية وقانونية له ولقيادته من خلال إظهاره كمسؤول عن جريمة الاغتيال والجرائم الأخرى التي تلتها، وتحويله إلى مجرد عصابة إجرامية في نظر الرأي العام».
وكشف المصدر أيضاً عن أن اتهام حزب الله رسمياً بالوقوف وراء جريمة اغتيال الحريري ستسبقها عملية «كبيرة لتلميع» وجه شعبة المعلومات في وزارة الداخلية اللبنانية، ورئيسها العقيد وسام الحسن. وذلك بشن حملة اعتقالات واسعة خلال الأشهر القليلة المقبلة ضد عناصر لبنانية، بعضها من الرموز السنية المشهود لها بتاريخها الوطني، بتهمة علاقتها مع الموساد، ومساعدة إسرائيل ضد حزب الله. وهو ما سيدفع الحزب المذكور والرأي العام إلى تغيير وجهة نظره الراهنة بشأن شعبة المعلومات، ومن ثم تثمين دورها الوطني. وسيكون من شأن ذلك إحراج حزب الله لاحقاً وعدم قدرته على التشكيك بشعبة المعلومات حين تعمد إلى اتهامه باغتيال الحريري من خلال المعلومات التي قدمتها إلى دانيال بلمار».
وجواباً على سؤال، قال المصدر «إن شعبة المعلومات تعرف منذ سنوات عديدة العشرات من اللبنانيين المتعاملين مع الموساد، وكانت تغضّ النظر عن نشاطاتهم واتصالاتهم مع إسرائيل. ولن يضيرها أن تحرق البعض منهم بطريقة إعلامية استعراضية إذا كان الغرض من ذلك تبييض صفحتها وإعادة الاعتبار لسمعتها أمام قسم واسع من الرأي العام اللبناني وتحقيق الهدف الأساسي المتمثل باتهام حزب الله باغتيال الحريري من دون أن يستطيع الحزب التشكيك بنزاهتها ووطنيتها»!