"الديمقراطية" بين الاسلام والمسلمين: هوة بين الفكر الإسلامي و"حامليه"
منهال الأمين
يتحول العالم العربي اليوم. وهو قلب العالم الإسلامي. تبعًا للتاريخ الجغرافي، لا الجغرافيا ولا الديمغرافيا. نعم يعتريه التغيير. مهما كان الرأي في التغيير، فإنه يعتري محيطنا. وشيئًا فشيئًا يتجلى البعد الإسلامي لهذا التغيير. ولكن هل الإسلاميون جاهزون لكي يغيّروا؟ هل لديهم القابلية لكي يتمثّلوا الديمقراطية، بتفسيرها الغربي أو من دونه، حتى يكونوا خيارًا شعبيًا صالحًا للحكم، فيطوروا هذا المفهوم وفق عقائدهم وفكرهم؟ أي لكي يجيبوا عن أسئلة وإشكالات الحاكم والحاكمية، من منظورهم، وبأدوات حديثة، حتى لا تُسقط عليهم من هنا وهناك. أي عملية "تطويع" و "انسجام" او "تكامل"، قد تنشأ من هذه المستجدات الاجتماعية والسياسية والفكرية؟ لعلها أسئلة حاولت ندوة "الحراك الإسلامي والديمقراطية الدينية"، المنعقدة في معهد المعارف الحكمية بالضاحية الجنوبية، مقاربتها " مقاربة ذات طابع علمي، مع مناقشة الأفكار بانفتاح، بعيدًا عن الجماهيرية"، بحسب مقدم الندوة، ليتناوب على الكلام عليها وفيها، في محاولة أيضًا لمقاربة الأجوبة، وااستخلاص المزيد من الأسئلة والاشكاليات، كل من: د. احمد موصللي، استاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية، والباحث عامر ارناؤوط.
كمدخل للولوج إلى عالم رحب " غير منظور"، على ما يبدو، من "الديمقراطية الإسلامية"، كان لا بد لموصللي ان يؤكد حقيقة أن الفكر الإسلامي ليس مستجدًا، بل هو أكثر تطورًا من الإسلاميين انفسهم. ودور المفكرين بينهم اليوم، هو إعادة صياغة منظومة فكرية حديثة، تتبنى مقولات الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان. فالأولى تبتني على الشورى، والثانية على مفهوم الاختلاف "فاختلاف امتي رحمة"، والثالثة لا تعدوها مبادئ الاسلام ابدا. ولكن توقف موصللي عند السلفية، التي ترفض فكرة الديمقراطية، وتذهب إلى أن الحاكم مطلق الصلاحيات، والشعب له صبغة "شورية" (من الشورى) لا الزامية. ويتمثل النموذج لمثل هذا الحكم في السعودية الوهابية، فكل وهابي هو سلفي، مع أنه ليس كل سلفي هو وهابي. وهما يفترقان عقائديًا أكثر منه في الفكر الإسلامي. على ان الوهابية تدعو إلى "تطهير" الإسلام من كل ما أُدخل عليه، أي من ما هو فكر بشري، وبناء عليه يتم تكفير كل ما عادهم من مذاهب شيعية وسنية على حد سواء. ومحور الإشكال السلفي هو علم الكلام، وما يوازيه ويتجاور معه من علوم إسلامية. وهذا يدعو للتساؤل: هل كلما تقدمت البشرية ابتعد المسلمون ( او الإسلاميون بلغة العصر) عن العصر الذهبي للإسلام، بدل أن يبنوا عليه ويستزيدوا؟.
وبين الحكم والشعب، نجد ان غالبية المسلمين، معاصرين وقدماء، في ما يُعرف بفكر إسلامي روج له مفكرون وفلاسفة وأئمة وغيرهم، يتبنون مبدأ الحاكمية، ولكنهم يتفرقون أيادي سبأ، في "من يباشر هذه الحاكمية؟". ولكن يبقى ان مشروعية الحاكم حتى لو كانت تتأتى من الله، فإن مشروع الحاكمية هو تمكين الشعب، أي المؤمنين به والمنضوين تحت حكمه، والحاكم يُنتخب عبر شورى الشعب، والشورى غير ملزمة إلا للنبي " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ"، أما للمؤمنين فإن الخطاب كان " وأمرهم شورى بينهم". من هنا يخلص د. موصللي إلى ان الإسلاميين المعاصرين يجعلون مفهوم الشورى موازيًا لمفهوم الديمقراطية، إلا أن هذه الأخيرة، مفهومها مطاط وواسع، ولا زالت في طور الاكتشاف والبحث عن مفهومها المحدد.
وفي بحثه المفصل، اكتفى عامر ارناؤوط، الخبير في الحركات الإسلامية، وفق واحد من التعريفات المرفقة ببحثه، بتلخيص أهم الأفكار، محاولا الإجابة عن أسئلة تجول منذ زمن، وما تزال، في خاطر الإسلاميين، ومن يراقب حراكهم اليوم، من قبيل : هل تتوافق الديمقراطية مع الإسلام؟ ليفترض أنها تفعل، ثم يتساءل: ما هي المرجعية التي تدعم هذا التوافق؟ ومن ثم ليدفع بالإشكالية الاكثر الحاحًا، إذ ألا تتناقض الديمقراطية بما هي حاكمية مع حاكمية الله؟ ليخلص في النتيجة إلى اطلاق عملية البحث عن دور الشعب، وحدود حاكميته في ظل الحاكمية الإلهية. ويذهب ارناؤوط إلى أن مفهوم "الحاكمية"، دخل في الاستخدام السياسي والفكري عبر أحزاب وحركات إسلامية مختلفة، وأصبح احد المنطلقات التأسيسية لخطابها. ورواج مفهوم "حاكمية الله"، يعود إلى انه من الصياغات السهلة والخطرة في الوقت ذاته. فهو سهل لأنه بسيط، يخاطب الفطرة في المؤمن، ويلخص له الحل بكلميتن " لا حكم إلا لله". وهو خطير لأنه بتعميمه الشديد، ومعياريته المطلقة، يفتح الباب لاستخدام اسم الله وسلطانه بشكل تعسفي واعتباطي. ثم يتساءل ارناؤوط: هل النظام السياسي في الإسلام، موصوف بدقة ومحدد الهوية والمعالم؟ ليخلص إلى أن رصد حركة النظم السياسية الإسلامية عبر التاريخ، يوضح أن هناك اختلافًا كبيرًا في ظروف هذه النظم، والتي جعلت قسمي الأمة ، السنة والشيعة، يختلفان جذريًا في مقاربتهما العقائدية والايديولوجية، والتطبيقية لنظامهما السياسي "الرشيد". وهذا الأمر يُلحظ جليًا عبر اختلاف أنظمة الحكم الإسلامي السني عبر التاريخ، وهو اختلاف بنيوي جوهري يسقط بشكل تام قداسة الشكل لصالح قداسة المضمون.
وكان لهذه المسائل، والشواهد التاريخية لزومها، ان تثير نقاشًا تاريخيًا، أراد له المنظمون ابعادًا فكرية، إلا انها لم تكن إلا لتنحى بالحوار نحو النقاش المذهبي، بعلمية لا تشبه حدية الأجواء السائدة اليوم في الإعلام والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا مع اصرار المحاضِرَيْن، وهما من وسط سني يحاضر في حضور اغلبه شيعي، على أن الافكار التي أدليا بها، لم تكن إلا افكارًا (حتى لا نقول حجارة) تُلقى في مياه راكدة عند "قسمي الأمة". إلا أن التوسع في النقاش ها هنا، أبعد الندوة عن موضوعها الأساسي، وعنوانها العام، ولم يتم التطرق إلى تجارب إسلاميي اليوم، إلا لمامًا وعرضًا بحسب ما اقتضته ضرورة الاستشهاد بالحاضر عونًا على التاريخ، وليس العكس، كما هو مفروض، ليس بمنتدين في ندوة علمية فقط، لا، بل بكل من يتعاطى الفكر السياسي هذه الأيام، ويتأمل ما الذي يدور من حوله، وعلى أية قواعد يبني افتراضيًا، محاولاً مقاربة الواقع، أصول الحراك الحاصل لدى إسلاميي القرن الواحد والعشرين، وكذا الحاصل في مواجهتهم.