كانت ربوعُ أرض "عاملة" تبتسمُ لخيوط الشمس الخجولة في ذلك اليوم الواعد، وكان ترابها الأحمر ينتفض لاحتضان بِذار سخيّ يبشّر بمواسمَ حنونةٍ معطاء، كتلك التي أنجبتها سنابلُ الصدّيق يوسف ذات زمنٍ بعيد..
في ذلك اليوم "التشريني" من العام 1952، كانت "جبشيت" تنزع عن وجهها آخرَ ملامح الصّيف، ليطبعَ مولودُها الجديدُ بصمة دفءٍ فريدةٍ على مُحيّاها، ولتحفرَ ذكرى ولادته نبوءة النصر الإلهي على ثراها.. إنّه صاحبُ القلبِ النقيّ فتىً، وصاحبُ الكفّ البيضاء التي أبَت مصافحة الذلً، رجلاً عالماً.
لم تحُل بساطة العيش الزهيد دون تألّق آمال "راغب حرب". كان يجول بين شتول التّبغ متفقّداً غِلال المواسم، وأحلامُ الأرض تُدغدغُ جبينه الأسمر. عاشَ بين الناس ولهم، حتّى لمست أفئدتهم عن قربٍ حنوّه وتواضعه النادريْن. عرفهُ مسجدُ جبشيت عابداً وفيّاً، فارتضاهُ مؤذّناً يافعاً وخادماً مُخلصاً، وألِف تُرابُ الجنوبِِ عزيمة خطواته، سائراً نحو لقاء النصر في ميادين الجهاد.. حتّى صار "راغبُ" عالماً تنحني له هامةُ العلم، وترفرفُ لقافلته بيارقُ النصرِ البعيدِ القريب، لقد صارَ "الشيخَ راغب"، ذا القلب الكبير الذي ظلّل فيئُه الوارفُ غربةَ الفقر واليُتم، ذا العمامة الطاهرة التي ألّفت بين قلوب المؤمنين يوم الجمعة، وأرست فيها الدين المحمّدي الأصيل.. تلك العمامة الأبيّة التي قهرت بنصاعة إيمانها زمن الإحتلال الأسود، فصار طلبُ الجهاد والشهادة صلاةَ أُنسٍ ترنّمها قلوبُ العامليّين، كيفما ساروا وأنّى حلّوا.
جهِد "شيخُ الشهداء" لوأد فكرةَ العمالة للعدوّ الغاصب، سارع إلى اجتثاث سمّها قبل أن يسري في أوردة "عاملة"، بل فضح زيف كينونتها، وكرّس حُرمَتها.. حتّى أخذ صوتُ الشيخ العامليّ يقضّ مضجع "إسرائيل"، وراح صداهُ يجلد كبرياءها، ويتلف غدّتها السرطانية الخبيثة. فما العملُ وهذا القائدُ الشعبيُّ الكبيرُ قد رفض مدّ يده للمصافحة الذليلة، وجعلَ الموقفَ الحاسمَ سلاحاً مُقاوِماً، ثمّ لم يرغمه الاعتقال على بترِ انتفاضته، ولم يثنِ عزيمته، بل زادَ الناس شغفاً بنهجه، حتى أمسى كلُّ الجنوبِ مصيدةً للصهاينة، بل أمسى كلُّ الوطنِ ثائراً كجبشيت؟!
إنّها مواسمُ الشهادة قد أينعت في شباط العام 1984، واختار العدوّ يومه السادس عشر ليغرزَ بيده إسفين الموتِ في نعشه.. أمّا "عاملة"، فكانت تنتظرُ عرسَ الدماءِ الزكيّة على ثرى جبشيت، وكانَ ترابها ينضحُ بهاءً ويقطرُ مسكاً لاحتضان جثمان شيخها الشهيد، بينما كانت شُعلة المقاومة تتأجّج وتشعُّ سنىً يغمرُ كلّ الوطن..
بين جبشيت والنبي شيت.. جسرٌ ورديّ
بين تلال ووديان "النبي شيت" وجبشيت، نما جسرٌ ورديٌّ للعبور نحو فصلٍ آخر من الحكاية القانية. فدماءُ الشهداءِ تورِق حيثما سرَت، وأقحوانها يشبُّ من أديم الأرض حينَ يُناديه نورُ الشمس.. وما أنوارُ تلك العمامة السوداء التي اعتلت رأس سيّد المقاومة، إلا انعكاسٌ لإيمانٍ راسخٍِ ملأ قلبه، إيمانٌ بحجم عظمةِ القضيّة وبقداسةِ نصرٍ آتٍ لا محال.
لم يصبحِ السيّد عباس الموسوي قائداً للمقاومين فحسب، فهُم رأوا فيه أباً حنوناً ارتسمت على جبينه آثارُ الطاعةِ والعبادة، واستقرّت في عينيه الخجولتين سيماءُ الطهارةِ وعشقِ الشهادةِ، فكان حبُّ الأرضِ عبادةً غرستها بين أضلاعِه النبي شيت حينَ وُلِد، وصارت الشهادة وساماً علّقته على صدرهِ جبشيت، حينَ وُلد في ربوعها فجرٌ جديدٌ للحريّة، ذات شباطٍ آخر.
لم يرتضِ غيرَ الصفوف الأمامية ساحةً للنزال مع العدوّ، فكانَ الأوّلَ حين تستعرُ نيرانُ الوغى، والأخيرَ حينَ تشتاقُ النفسُ إلى متاعِ الدنيا.. هكذا عاشَ السيد عباس مع المُجاهدين تواضعَ القادة، فأطعمهم بأنامله، وبلسم بكفّيه جراحهم، وأطفأ ببستمه أحزانهم وآلامهم، حتّى خطَّ في نفوسهم طريقاًَ فريداً نحو السعادة الأبديةّ، وأعيا "إسرائيل" أن تصنعَ طريقاً نحوَ اغتيالِ القضيّة.
في ذلك اليوم، كانَ طيفُ شيخ الشهداء يرتقبُ بشوقٍ صعود سيّد المقاومة إلى منبره. في السادس عشر من شباط العام 1992، كانت ذكرى الشيخ راغب حرب تصبغ جبشيت بألوانِ العزاءِ والفَخارِ في آن، وتغزلُ فوقَ هامة "عاملة" إكليلَ نصرٍ جديد، نصرٌ بزغَ فجره حينَ كتب السيّد عباس الموسوي بمدادِ دمه الوصيّة الأساس، ليمضي بعدها في ركب الشهادة، وتتجذّرَ في التاريخِ حروفُ الوصيّة.. وصيّةُ حفظُ المقاومة الإسلامية.
مواسمُ عزٍّ.. ستُزهر
لم تحل بشاعةُ الغدر دونَ تألّق المواسم في "عاملة". فكيفَ لعطائها أن يخبو، وتُرابها مُفعمٌ برحيقِ الشهادةِ الورديّة؟ وكيفَ لسنابلها السخيّةِ أن تنحني، وشموخُ السّماء عنوانُها، وصلابةُ الصخرِ عِمادُها؟
لا، لم يُكتَب لمواسمَ "عاملةَ" عَناءُ الفقرِ يوماً، فعمادُ المقاومةِ مدى الأزمانِ أغناها. قد قضى "عماد مغنيّة" كُرمىً لها، فأكرمته قائداً شهيداً، ونجيعُه الزاهي أحياها.. اليومُ الثاني عشر من شباط العام 2008 لم يُسدل ستارَ سنواتٍ عجافٍ على عطاءاتِ أرضنا، بل شرّع أبوابَ المجدِ أمام فصولٍ قادمةٍ من حكايا النصرِ المبين، وأنبتَ مواسمَ عزٍّ سنقطفها حين يُزهر دمُ القادةِ عند أعتاب القدس، وتُزغرِدُ "عاملة" لحريّةِ وأفراحِ فلسطين.. حينَ يسطع على جبينِ الأرضِ ضوءُ الصبح، ويجيءُ نصرُالله والفتح، وهو حتماً قريب!