ايهاب زكي
في الحرب الصليبية الأولى حيث كان العالم العربي الإسلامي يرزح تحت الانقسام والفرقة وصراع الملوك والأمراء، وبعد السيطرة على أنطاكية، ظلت قلعتها صامدة رغم أنّها تحت الحصار. ومع طول الحصار بدأت الأمراض تتفشى بين جنود الحملة، كما قلّت الموارد حتى بدأوا بأكل خيولهم ثم أسراهم من المسلمين وأطفال المسلمين، وبدا أنّ الحرب تتجه لصالح المتحصنيين بالقلعة وبالتالي كل المنطقة، ولكن في لحظة الانكسار هذه أخرج راهبٌ من جعبته أرنباً ـ أملاًـ، فنادى في الجند أنّ الحربة التي طُعن بها المسيح على الصليب مدفونة داخل كنيسةٍ في أنطاكية، ويقول المؤرخون على أغلبهم أنّ الراهب هو من قام بدفن تلك الحربة، ولكن في هذه اللحظة انقلبت الموازين، وبدأ الجند يدقون أسوار القلعة بالسلاح الأمضى.. "الأمل"، فتهاوت القلعة ومعها رزح بيت المقدس وبعض مدن الشام التاريخية قرنين تحت الاحتلال الصليبي، ومن المفارقات أنّ البعض حاول التشكيك برواية الراهب، وطلبوا منه أن يمشي في النار ليثبت صدقه، فمشى في النار فاحترق، لكنه عاش 12 يوماً بعدها منكراً أنّ النار التهمته لكذبه، لكنهم المشككون هم من اعتدوا عليه، لكنه قدم لملوك أوروبا بيت المقدس على طبقٍ من حربة وفديةٍ من نار.
هذه الواقعة تخبرنا أنّ التاريخ لا يجيد العبث، قد يجيده السياسيون، ولكن لم أكن لأثقل عينيّ القارئ بسرد هذه الواقعة لأستنتج طبائع التاريخ، بل لاقتطاع شاهدٍ هو مناط الفكرة، حيث إنّ صناعة الوهم أمرٌ هيّن، والأهون منه هو تحويل الوهم إلى أمل، فيصبح الأمل السلاح الأشدّ فتكاً من الحديد. ونحن اليوم نعيش في عالمنا العربي والإسلامي تطوراً عكسياً، حيث إننا بارعون في تحويل الأمل الحقيقي إلى أوهام، ونذيب حديد الأمل في نار الوهم، حيث يحاول الجميع إقناعك بأنّ العداء الإيراني لأمريكا و"إسرائيل" مجرد وهم، وهي لعبة متفقٌ عليها لاستنزاف خيرات المنطقة والسيطرة عليها. والحقيقة لا أعرف منذ انكسار المدّ القومي، ما هي الموانع التي كانت تعيق الأهداف الأمريكية بالاستنزاف والسيطرة، قد تكون السعودية هي العقبة الكأداء مثلاً، لذلك أعلنت العداء لإيران بمجرد سقوط الشاه حليف أمريكا وانتصار الثورة الإسلامية، أو قد تكون أمريكا بحاجة لـ"بعبع" إيراني حتى تستولي على أموال النفط، ومع سَوق هذه الحماقات، لا بدّ من تسجيل نقطة أخرى، فالكُتاب أيضاً يجيدون العبث وليس الساسة وحدهم.
وهنا أودّ أن أفترض حقيقة المؤامرة الأمريكية الإيرانية "الإسرائيلية"، وأضفي على الحماقات دثار الرصانة، وأنّ العداء مجرد وهم، ولكن السؤال الذي يبقى رغم هذا الالتفاف، ما هي نتائج هذا الوهم؟، وهي نتائج واقعية معاشة يلمسها الناس لمس اليد مهما سحروا أعينهم وهذه يعضها:
أولاً: ديمومة الصراع، فلولا الوهم الذي منحته "المؤامرة" لأصحاب الحق لانتهى الصراع بتسيُدٍ "إسرائيلي" شامل على المنطقة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً.
ثانياً: كبح جماح عملية التفريط "الرسمي" التي بدأت في أواخر القرن الماضي خصوصاً بعد مؤتمر مدريد، وصولاً لما سميّ بالمبادرة العربية.
ثالثاً: استنبات حركات مقاومة جديرة وقادرة على إيلام العدو الصهيوني، بل وتهديد أمنه وصولاً لتهديد وجوده.
رابعاً: تحرير مدن وقرى عربية بالقوة، دون الرضوخ لشروطٍ استسلامية تفرضها سطوة العدو.
خامساً: انبلاج الصورة الحقيقية للفسطاطين بين المقاومين وبين المطبعين المفرطين.
سادساً: تعديل ميزان القوى العالمي، واصطناع أرضية قابلة للبناء عليها لكسر الأحادية الدولية نحو عالم متعدد الأقطاب.
وهنا يصبح السؤال الأكثر مشروعيةً، من يتمسك بالعروبة وفلسطين ويعادي "إسرائيل"، لماذا لا يتخذ من هذا العداء"الوهمي" أملاً؟، ويدق بمضرجاته قلاع العدو، أم أنّ الحقيقة هي العكس تماماً، وأنّ الأمل الذي منحه هذا العداء هو المراد طعنه وتوهيمه وتوهينه.
وبالعودة للتاريخ، يتحدث البروفيسور غراهام أليسون في كتابه "بلدان قدرها الحرب"، عما أطلق عليه "فخ ثيوسيديدس"، وثيوسيديدس هو المؤرخ اليوناني الذي أرَّخ لحرب أثيناـ إسبرطة، حيث إنّه تنبه للسبب الحقيقي للحرب التي استمرت ثلاثين عاماً، واعتبر أنّه صعود أثينا أمام إسبرطة في حالة تنافسية، وهو ما جعل الحرب أمرٌ حتمي، ويُسقط ذلك على العلاقات الأمريكية الصينية التي تتجه نحو الحرب للسبب ذاته، وهو الصعود الصيني، وإذا قمنا بتضييق الدائرة، فإنّ الصعود الإيراني إقليمياً، سيؤدي حتماً إلى صدام مع القوة التي كان يُفترض أنّها المتسيدة "إسرائيل"، وهذا الجدل التاريخي بعيداً عن أيّ اعتبارات دينية أو إنسانية وأخلاقية أو حتى براغماتية أسست للعداء بين إيران و"إسرائيل"، وهذا حقيقة ما نشهده ونشاهده بأنّ الصراع حتمي، وهو قائم على كل المستويات وفي كل الساحات، وفي هذا الصراع المستحكم هناك حلفاء لإيران كما هناك حلفاء لـ"إسرائيل"، واختيارك للضفة"الإسرائيلية" ليس عبثاً أيضاً، حيث إنك خضعت لتجارب مخبرية طويلة، صَهرت الأوهام في عقلك، وجعلت من أوهامهم حقائق في ذهنك، ومن آمالك أوهاماً تحت نعالهم.