المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


عمليات التبادل

عن لحظة مختلفة عاشتها الضاحيّة


راجانا حميّة
جريدة الاخبار اللبنانية - 17/7/2008
كان مساء ضاحية بيروت أمس مختلفاً. مساء استثنائي إلى درجة شعرنا معها بأنّ الضاحيّة، في اللحظة التي ظهرت مروحيّة الأمم المتّحدة في سمائها، هجرت نفسها، متوجّهة بكلّ ما فيها من بشرٍ وقوّة إلى الطريق المؤديّة إلى مطار رفيق الحريري الدولي. هناك، على تلك الطريق التي اختنقت بقاطنيها وبعابرين يقصدونها ربّما للمرّة الأولى، كان كلّ شيءٍ مختلفاً. أحياء لا تشبه نفسها، أطفال يستسلمون للحظة فرحٍ لن تمرّ دائماً، وأضواء وضوضاء توحي بيومٍ طويلٍ بدأ باكراً على غير عادته... وأعلام وأحزاب لم نألف ألوانها في تلك «الجَمعة».
ولكن وسط كلّ هذا الصخب والصراخ، لا مجال للغربة عمّا يحيط بك، فهنا تكتشف أنّك إن لم تصرخ، فلن تشعر بلذّة اللحظة التي لن تمرّ في كلّ مرّة وابتسامة عميد الأسرى اللبنانيين «سابقاً» في السجون الإسرائيليّة سمير القنطار وهو ينظر إلينا بالعينين اللتين لمّا تستوعبا بعدُ النور عقب ثلاثين سنة من عتم الزنازين المفزع. لكن تلك الثلاثين التي غابها القنطار في سنٍّ مبكّرة، كانت كافية لتجمع الكثيرين، ولتغيّر في ملامح الطريق الذي انقسم محطّاتٍ لأحزابٍ وناسٍ ومشجّعين احتجزوا زوايا لهم ولصور زعمائهم وأغنياتهم، فاختلطت في الحي نفسه من الضاحية التي «وُصمت» في مرحلةٍ ما باسم حزبٍ واحد، «السنديانة الحمراء» بـ«نزل التيّار ع الأرض»، بـ«سناء محيدلي»... بـ«نصرك هزّ الدني».
إذاً، كلّ شيءٍ غاير «الدارج» في الضاحية، حتّى توقيت موعد صحوها. والحي الذي استفاق باكراً من غفلةٍ عابرة، لن ينام بسهولة. فمنذ الخامسة فجراً كان طريق المطار يتحضّر لـ«عرس حريّة» لن ينتهي في ساعاتٍ قليلة، حيث انهمك قاطنوه والزائرون بتجهيزه لاستقبال الأسرى الخمسة المحرّرين. استيقظوا منذ الصباح الباكر على مكبّرات الصوت، وانتشروا في زوايا الطريق، التي ستصبح في ما بعد محطّ الرحال الأوّل للقنطار والرفاق الأربعة، يعلّقون صور العائدين وصور الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله و«الرضوان»، ويرصفون الأعلام، التي حضر بعضها استثنائياً في هذه الذكرى. لا يهمّ إن كان الحضور استثنائيّاً، ولكن طريق المطار بالأمس كان يستحقّ كل هذه الحياة، وجولة واحدة في زواياه كانت كافية لقول إحدى السيّدات اليونانيّات بلكنتها العربيّة المتقطّعة: «لا شيء يشبه هذا اليوم». فعلاً، فطريق المطار أمس، كانت فيه كلّ الضاحية، ولم يكن وارداً في تلك اللحظة أن تعيش زحمة سيرٍ خانقة، إذ استُبدلت السيارات بالدراجات الناريّة أو الهوائيّة، لكن حتّى هذه وجدت صعوبة في العبور في بعض الأحيان، وخصوصاً عند مدخل المطار حتّى مستشفى الرسول الأعظم، حيث لم تسمح كثافة الناس وعناصر انضباط حزب الله بأي اختراقٍ يُذكر.
ولكن ناس الضاحية لم يكونوا وحدهم من «خنقوا» طريق المطار بأعدادهم، فثمّة أشخاص آخرون ليسوا من هنا، وحضروا كرمى للعائدين وللسيّد نصر الله، وأطفال أيضاً لا يعرفون عن القنطار والرفاق سوى الأسماء التي سمعوها من أهاليهم والنشرات الإخباريّة، ولكن الحماسة غلبتهم وأقعدتهم منذ الصباح الباكر على الحواجز الإسمنتيّة المقابلة للمطار بانتظار طائرةٍ عسكريّة يجهلون تفاصيلها.
هؤلاء الأطفال لهم قصصهم ومواقفهم، كما الكبار العارفون، رغم معرفتهم الضئيلة بالعائدين، ولكنّهم أصرّوا على المشاركة، إن بحمل علمٍ أو الغناء مع مكبّرات الصوت أو توجيه كلمة إلى «العائد مهما يكن اسمه، سمير أو بسّام أو حسين...».
ولكن حتّى مع ضياع الأسماء، يحفظ هؤلاء الأطفال الكثير من «المقاومة»، حيث تمنّع عدد منهم عن ذكر أسمائهم، مكتفين بأسماء مستعارة كـ«مناضل» و«مقاوم» وهادي ابن الحادية عشرة وأحد «المناضلين» الذي اكتفى باسمه الأوّل لأنّ المعلومات التي سيقولها «لا تحتمل ذكر العائلة»، ومن جملة ما «صرّح» به «أنّ عمليّة الرضوان لن تكون الأخيرة، سنثأر لثلاثين عاماً أبعدت الأحبّاء عن أرضهم».
ومقابل هؤلاء «المناضلين» الصغار، ثمّة من حضر للاستمتاع باللحظة فقط، التي استغلّها لإحياء حفلة غناءٍ أو رقصٍ لم يكن ليجرؤ على إقامتها في لحظةٍ مغايرة.
ولكن كلّهم «مناضلون» وهاربون من روتين الحياة العاديّة كانوا في انتظار اللحظة التي يمرّ فيها القنطار ورفاقه الأربعة، والتي كانت مغايرة في صخبها للنهار الطويل الذي مرّ على الضاحية، فعندما وطئت الأقدام باحة المطار الخارجيّة، «اشتعلت» الضاحية كلّها، بالمفرقعات التي أنارت الطريق في «عزّ التقنين»، وغرقت الطريق بالورد والأرزّ.
في تلك اللحظة، لحظة وصول القنطار ورفاقه ببزاتهم العسكريّة، التي كانت مختلفة إلى درجةٍ كبيرة، كان بإمكان أيّ أحدٍ أن يرى ابتسامة القنطار ويديه اللتين ترسمان شارة النصر في كلّ وجه من الوجوه الحاضرة على طول الطريق من أمام مدخل المطار إلى ضريح الشهيد عماد مغنيّة في روضة الشهيدين ـ الشيّاح، إلى ملعب الراية الذي غصّ هو الآخر بمتلهّفين لرؤيةٍ مضاعفة، وجوه العائدين، وكذلك وجه نصر الله الذي فاجأ الجميع بحضوره العابر ورحيله السريع أيضاً.
وغرقت الطريق بالورد والأرز، اللذين تكفّلت نساء هيئات الانضباط في حزب الله بنثرهما على الرفاق الخمسة الذين وطئوا أرض لبنان للمرّة الأولى. وبين الورد والأرز، حضرت رائحة البخّور أيضاً، مترافقة مع وصول الموكب بعد ثلاث «بروفات» أضاعت الحشود الحاضرة على جانبي الطريق. غير أنّ اللحظة التي تأخّرت كثيراً، لم تمنع الحاضرين من استعادة الحماسة ونسيان ساعات التعب، مع رؤية القنطار ورفاقه ببزاتهم العسكريّة.
17-تموز-2008
استبيان