المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


عمليات التبادل

عقود من الأسر انهارت على مدرج المطار


ثائر غندور
جريدة الاخبار اللبنانية - 17/7/2008
في المطار كان الاستقبال. عناقٌ وقبلٌ ودموع. رسميّون احتلوا مدرّج قاعدة القوّات الجويّة في مطار بيروت، وزادوا دقائق الانتظار التي فصلت أبطالاً خمسة عن أهاليهم. وتحت خيمة صالة الشرف حصل اللقاء الأول. لم يكن هناك كلام، بل أحاسيس فاضت واكتسحت الجميع. أحاسيس عمرها من سنوات اعتقال سمير القنطار

في المطار كان الاستقبال. عناقٌ وقبلٌ ودموع. رسميّون احتلوا مدرّج قاعدة القوّات الجويّة في مطار بيروت، وزادوا دقائق الانتظار التي فصلت أبطالاً خمسة عن أهاليهم. وتحت خيمة صالة الشرف حصل اللقاء الأول. لم يكن هناك كلام، بل أحاسيس فاضت واكتسحت الجميع. أحاسيس عمرها من سنوات اعتقال سمير القنطار
مرّ المشهد سريعاً. سمير القنطار يبعد مترين عن أخيه بسّام. التفّ الحرّاس حوله والصحافيون شكّلوا دائرة. يصرخ بسّام «خلوا يوصل لعندي»، ليحمله بين يديه. دانا إلى جانبه تبكي. هو خالها الذي لم تعد تملك القوّة لحضنه. أخوها إلى جانبها يبكي كذلك. لم تتوقّف الدموع. تقول إنها فرحة، لكن ما الذي يُمكن أن تفعله، جيش من البشر يريد لمسة من يد البطل، أو قبلة، وبعضهم من طمح إلى ضمّة أو لقطة، كما كان يقول بعض المصوّرين الصحافيين. لم يكن سمير بخيلاً. ضمّ الجميع إلى قلبه، لكنه لم يتحدّث. لربما أراد حفظ تلك الكلمات ليقولها في حضرة المحتشدين في ملعب الراية.

في محيط هذه الزحمة، كان ماهر كوراني يضم طفله حسن إلى صدره. لم يعرفه الطفل جيداً، لكنّه بقي هادئاً في حضن والده وكأنه تعرّف إلى رائحة العرق. وزوجته لم ترده أن يذهب، لم تشبع منه بعد، لكن ضابط المقاومة وعدها: خمس دقائق ويكون إلى جانبك في ملعب الراية. وفتحت والدة خضر زيدان يدها لتضم ابنها. انتظرت. وعانقها أخيراً.

لا أحد يستطيع فهم حقيقة الدموع التي انهارت فجأة على خدود الكثيرين. بعض الصحافيين أرادوا صورة لشاشته. قد يحق له ذلك، لكن صوت أحد الرجال كان قاسياً: «اتركونا نشوف أولادنا شوَيّ، بعدين بتصوّروا». والد آخر وقف يُراقب. ترك ابنه لأحضان الآخرين. دموعه كانت حارّة. لكنه لن يُزعج ابنه ولو بقبلة. يوفّر له أحد ضبّاط المقاومة ممراً، ليحضن ابنه العائد من فلسطين المحتلّة.

سمير كان يُراقب. أُدخل إلى غرفة داخليّة في صالة الشرف. رائحة عرقه مختلفة، ولعينيه بريق يُؤكّد أن الهزيمة لا تعرف طريقها إلى هاتين العينين. رائحة فلسطين فيه وفي لكنته الجميلة. لكنته التي تُذكّر بأن سبب أسره كان فلسطين، وأن نضاله نضج على حب الأرض المحتلة ورفض ظلمٍ واحتلالٍ حظي بغطاء دولي.
الدقائق كانت قليلة بين الأهالي، والدموع كثيرة. الجميع ضمّوا الجميع. وفيق صفا كان يُراقب المشهد فرحاً بهذا الإنجاز. لم تكن اللحظات كافية، فجمهور المقاومة ينتظر في ملعب الراية لرؤية أسراه المحرّرين. كان لا بدّ من الفراق ولو لساعات قليلة. ركب المقاومون سيارات الجيب المفتوحة، ليحيوا من ينتظرهم على الطريق.

ووقف الشيخ عبد الكريم عبيد يراقب المشهد وهو الذي جاء «لأعرف كيف انتظرني أهلي في الـ2004. هم أخبروني، لكن أريد أن أعيش اللحظات». كان فرحاً. يقترب منه أحد ضبّاط الأمن العام ليقول له: أتذكرني يا شيخ، أنا كنت معك في الطائرة في الـ2004. ابتسما. يتذكّر الشيخ الساعات التي انتظر خلالها إطلاق سراحه، «من الساعة الثامنة عشرة والنصف ليلاً إلى الثانية عشر ظهراً من اليوم الثاني». ويقول إنه في هذه الساعات يعيش الأسير شعورين: الخوف والرجاء. الخوف من أن يُغيّر العدو في رأيه في اللحظات الأخيرة، والرجاء بمعانقة الحريّة. كان الشيخ سنداً للأهالي المنتظرين وصول أحبّتهم، يشرح لهم لماذا يحصل التأخير ويمدّهم بالصبر والقوّة.

مشى المقاومون الخمسة يتقدّمهم الوفيقان: وفيق صفا ووفيق جزيني. خطواتهم واضحة، ثابتة وصريحة: لم نذهب إلى القتال إلّا بسبب حق مسلوب. هو كلام قاله الشيخ عبيد؛ «نحن لا نريد الانتقام حتى من عدوّنا». هكذا يُعبّر عندما تسأله عن بعض الذين كانوا يستقبلون العائدين. يرى أنّ بعض هؤلاء لطالما شتموا المقاومة، «لكننا كنّا نشعر بحرارة قبلات البعض وجفاف الآخرين؛ وعندنا مثل: قالوا يا رسول الله هو يسرق ويُصلّي، فقال: اتركوه يُصلّي فإن صلاته قد تنهاه عن السرقة». هو يتمنى لو يعود بعض هؤلاء الساسة إلى رشدهم. كان الأهالي يُحيطون به. لا يعرفون ماذا يقولون وقد سئموا استقبال كاميرات التلفزة وتكرار الكلمات ذاتها. كانوا يعدّون الدقائق والثواني.

عندما نزل الأبطال من طائرتي الهليكوبتر، بدأت القصة في مطار بيروت الدولي. حطّت قدم سمير القنطار على أرض المطار، فتغيّرت النظرات في وجوه الجميع. نزل ببزّته العسكريّة، وكأنه يعود من عمليّته البطوليّة. وكأن السنوات الثلاثين لم تكن.

وقف رئيس الجمهوريّة على المنبر خطيباً، وبجانبه معظم من يتعاطون السياسة في البلد. لكن أعين المحرّرين كانت في مكانٍ آخر. حاولوا رؤية وجوه أحبابهم. كانوا بعيدين عنهم عشرات الأمتار. لكن رائحتهم أزكت أنوف من انتظر طويلاً. قربهم وقف عشرات الصحافيين في الشمس طوال ساعات النهار ووسط تنظيم سيئ إلى أقصى الحدود. ألسنة الصحافيين لم تهدأ من الشكوى، كما لم تتعب أيديهم من التدافع. منهم من حضر منذ التاسعة صباحاً معتقدين أن الأسرى سيصلون عند الرابعة عصراً، لكن الجميع أخرجوا من صالة الصحافيين ليمضوا نهارهم على المدرج. فاستعان عدد من الصحافيين بقاعة الاستراحة التابعة للقاعدة الجويّة، مستغلين وجود تلفزيون فيها ليتابعوا ما يحدث في الناقورة ومعرفة أسباب التأخير. وعلا التصفيق عند وصول المحرّرين إلى الأراضي اللبنانيّة، وخصوصاً أن بين العسكر من هو ابن عمّ أحد المحرّرين.

نزل المقاومون الخمسة من طائرتي الهليكوبتر: سمير القنطار، خضر زيدان، ماهر كوراني، حسين سليمان ومحمد سرور. اعتلوا المنصّة المخصّصة لهم، وبدأ الرئيس ميشال سليمان كلامه. لم يكن الصوت مسموعاً في البداية، رغم كل التجارب التي أجراها ضبّاط الحرس الجمهوري طوال النهار. توجّه سليمان إلى «الابطال المحررين»، قائلاً: «يشعر لبنان اليوم بالفخر والاعتزاز، ونحن نستقبل المقاومين العائدين من سجون الاحتلال، وفي مقدمهم عميد الأسرى سمير القنطار. ونرفع رؤوسنا افتخاراً بالشهداء الذين تعود جثامينهم إلى تراب الوطن الذي افتدوه بالدم والشهادة، بعدما ظلّت عظامهم تحرق تراب العدو بحثاً عن عزة تراب الوطن».

وأكد أن من حق لبنان استرجاع ما بقي من أرضه المحتلة بكل الوسائل المتاحة والمشروعة، لأنه حقّ تكرسه القوانين الدوليّة، «ولن نتنازل عنه، تماماً كما نتمسك بحق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، الذي تضمنه قرارات الأمم المتحدة». وحملت كلمة سليمان رسائل سياسيّة واضحة للداخل إذ «لا بد أن تتحقق العودة الكاملة للمهجرين في الداخل، ويقفل هذا الملف المحزن نهائياً. ولا بد أن نسعى إلى عودة من هاجر إلى الخارج بسبب ضيق الحال في البلاد، أو من ابتعد قسراً أو طوعاً عن أرضه وأهله، تحت تأثير التضليل أو الظروف الملتبسة التي أفرزها الاحتلال الإسرائيلي، فتفتح بعودتهم صفحة جديدة تطوي نعرات الماضي وسقطاته. ولا بد من عودة المفقودين، أو الكشف عن مصيرهم، كما جلاء الحقيقة عن ظروف من سقط شهيداً».

سمعت وداد حلواني هذا الكلام، وهي التي لم تعرف مصير زوجها المفقود بعد. كانت تنظر إلى قادة الميليشيات الذين أصبحوا نوّاباً ووزراء. أحد هؤلاء مسؤول عن خطف زوجها في الحرب الأهليّة. ربما كانت تعرفه أو لا، لكنّ مشهدهم كمسؤولين يستقبلون المقاومين قبل أهلهم لا بدّ أنه آلمها، كما مشهد هؤلاء السياسيين «يتقاتلون» على الموقع الذي يريدون أن يقفوا فيه.

فهؤلاء السياسيون بدأوا بالوصول قبل ربع ساعة من وصول الهليكوبتر إلى مدرج القاعدة الجويّة في مطار بيروت، وتجاوز عددهم المذكورين في اللائحة التي وزّعها المكتب الإعلامي في القصر الجمهوري، إذ لم تضم هذه اللائحة رؤساء الأحزاب، وخصوصاً الحزب الشيوعي الذي حضر بعدما كان قد غُيّب عن استقبال الأسرى في عام 2004. وشارك جميع رؤساء الحكومة السابقين والوزراء والنوّاب الحاليين، وكان لافتاً غياب النائب وليد جنبلاط والرئيس أمين الجميّل. لم يكن حضور السياسيين ذا وقع استثنائي على جميع الموجودين. أثرهم لم يتعدّ سوى زيادة التضييق الأمني على الصحافيين، وخصوصاً المصوّرين، وزيادة دقائق الانتظار للأهالي.

عناق سمير والأسرى لهؤلاء السياسيين كان تماماً كما وصفه الشيخ عبد الكريم عبيد: عناق حار مع البعض، وجاف مع الآخرين، وعند آخر صف الرسميين كان التعب واضحاً على وجوه الأسرى، من بروتوكولات من لا يعرف عن المقاومة سوى مدحها أو شتمها.
في هذا الوقت، كان وفيق صفا، يُراقب هذا الإجراء البروتوكولي. لم يرد الكلام على رحلة الدقائق العشرين في الهليكوبتر «واللواء جزيني كان معنا ويعرف أكثر». يبتسم جزيني لهذا الكلام «فالحاج وفيق هو الذي جلس بجانبه، وسمير لم يتحدّث طوال الوقت، كنّا جميعاً فرحين».

17-تموز-2008

تعليقات الزوار

استبيان