المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


اسرى لبنان

شهادة فتاة لبنانية في معتقل "اسرائيلي"

المؤلف: سهى بشارة / معتقلة سابقة‏‏
الملخص: منذ احتلال "اسرائيل" لجنوب لبنان في العام 1978، اقامت معقلا كبيرا في منطقة الخيام اللبنانية، اجمع من نزل فيه او شاهده، بأنه شبيه المعتقلات النازية‏‏
هذا المعتقل، كان اسمه يراوق الرعب، وزج فيه "الاسرائيليون" الوف اللبنانيين، الكثيرون منهم ماتوا داخل السجن، والكثير منهم خرجوا منه مصابين بامراض فتاكة، وكثيرون قضوا داخله سنوات عدة، ذاقوا خلالها شتى صنوف العذاب.‏‏
هذا الموضوع، هو شهادة حية للبنانية سهى بشارة، التي اعتقلها "الاسرائيليون" في العام 1988، وامضت في سجن الخيام زهاء عشرة سنوات، وفي هذه الشهادة، تصف سهى بشارة، كيف كان تعامل "الاسرائيليين" وعملائهم مع المعتقلين، وكيف كانوا يمضون ايامهم.‏‏
هذه الشهادة لمعتقلة لبنانية سابقة برسم "الضمير" العالمي الذي لا يكف عن تأييد "اسرائيل".‏‏
انشئ معتقل الخيام، في العام 1985، في ما كان سابقا معسكرا قديما لقوات الانتداب الفرنسية، وذلك ليكون بديلا عن معتقلي انصار1 وانصار2، اللذين اخلاهما "الاسرائيليون" بعد انسحابهم الجزئي من لبنان، لسنوات ثلاث خلت. ويقوم معتقل الخيام على مرتفع شامخ واستراتيجي هو لصالح المنطقة المحتلة، وبعيدا عن ساحات المعارك، وقريبا من "اسرائيل"، في حين ان الطرق اليه كثيرة الوعورة. اما المعتقل فقد عهده "الاسرائيليون" رسميا الى "جيش لبنان الجنوبي"، حتى لو كانوا اول من اداره مباشرة لدى انشائه، ناقلين مسؤوليات الاستجواب وغيرها من المهمات، وفي وتيرة متدرجة، الى مرتزقة لبنانيين. وكان "الشين بت"، الجهاز المولج بالامن الداخلي في "اسرائيل"، يلاحق كل ملفات المعتقلين فيه، وكان عملاؤه يترددون على السجن ليطلعوا على المستجدات فيه. وكانت منشآت هذا المعتقل، المنتصبة على مرتفع مطل على البلدة التي يعود لها فضل تسميته، تضم فيها من الابنية ما ينبئ بظلاميتها وانعدام الرحمة فيها: قاعات للاستجواب ومجموعتان من الزنازين الجماعية، التي غالبا ما تجدها مكتظة بالنزلاء، احداهما مخصوصة بالرجال والاخرى بالنساء. وفيها كذلك بعض المساكن للحراس، التي من شأنها (المساكن) ان تكمل بنيان هذه المنشآت. بالاضافة الى كون المعتقل محاطا بالمراقب، فقد احيط بحقول من الالغام من كل ناحية، حتى ليغدو الفرار منه امرا بالغ الصعوبة، بل مستحيلا.‏‏
ويوم نزلت فيه عام 1988، بعيد العملية، كان صيته قد ذاع، بلا منَّتي. وبالطبع، ظلت الدولة العبرية تنكر وجوده، كما انكر "جيش لبنان الجنوبي" معرفته به، مرارا. غير ان المعتقلين الذين كان الميليشيات الحليفة لـ"اسرائيل" تطلقهم، بين الحين والاخر، اخذوا يصفون ذلك المعتقل ويمعنون في وصف ظروف الحياة فيه، او بالاخرى صراع البقاء الذي ساد في داخله، حتى لو كانت هذه الميليشيات تنصحهم بعدم الكلام على ذلك... النعيم ! وكانت نتف المعلومات المستقاة من هنا وهناك، والتي اعتُدَّ بصدقيتها، فقد نبهت المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان الى وجود انتهاكات مريعة في معتقل الخيام، فسارعت الى تصنيفه في سجلات العار خاصتها، وفي المرتبة التي يستحقها. والحال، ان انتفاء أي وضع قانوني من المنطقة المحتلة، والذي يتعارض مع توجهات الامم المتحدة، كان يحول على الدوام دون تحقيق مهمات الاستطلاع الانسانية او زيارات المنظمات غير الحكومية لمعتقل الخيام، من مثل المؤسسات الدولية. حتى ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر نفسها لم يكن يؤذن لها رؤية المعتقلين في معتقل الخيام.‏‏
كان ذلك المعتقل جحيما، الا انه جحيم انفرادي وسري. ويلتهم المعتقل نمطين من الطرائد. ثمة في المقام الاول مقاتلو المقاومة الذين اسروا في المعركة، ثم الذين اكتشفهم جهاز الامن في المقام الثاني. وبالنسبة لهؤلاء المكتشفين، والذين صرت في عدادهم، فانهم متشابهون في مصيرهم ومسار معاناتهم. في اول الامر، يكون الاستجواب والتعذيب، ويليهما العزل، ولاحقا يترك السجين بلا محاكمة ولا عقوبة معلنة، لجلاديه، فيسومونه اشكال العذاب اعتباطيا، وبلا رحمة.‏‏
كان معتقل الخيام مثاليا لـ"اسرائيل"، ولمكاسبها منه. اذ لا وجود فيه لعدالة او قضاء، ولا قضاة، ولا لمحامين. في معتقل الخيام، السجناء منكرون، ومحجوبون، بل تراهم محذوفين من عالم الاحياء وبسهولة تامة.‏‏
ولكن جهاز الامن ما كان ليكتفي باعتقال الذين يقاتلونهم. انما وجدت المعتقل يغص بخلق لا يمتون باي صلة الى فرق الجنود غير النظاميين. نساء، واطفال او معمرون او معمرات، أُتي بهم من كل فج عميق، وادخلوا الى معتقل الخيام ليلقوا فيه شر المعاملات، واعظم التهديدات وافظع صنوف التعذيب والضغوط. وكل ما يهم جيش لبنان الجنوبي هو الحصول على معلومات عن تحركات لاقرباء هؤلاء الموقوفين او لمقربين منهم ممن تحوم حولهم الشبهات، او لدفعهم، بالابتزاز حينا والتهديد حينا آخر، للتعاون مع جهاز الامن في المنطقة المحتلة. اما المدة التي يقضيها هؤلاء في معتقلهم فقسمة ونصيب. فلا احد يعرف، ممن يدخل الى معتقل الخيام . . . ان هو سيخرج منه بعد اسبوع، او بعد سنوات كثيرة.‏‏
فضلا عن ذلك، فان خروج المرء من معتقل الخيام حيا ليس بالامر الاكيد. ولا سيما النساء السجينات. ذلك ان الحياة اليومية في معتقل الخيام كفيلة بان تتلف اعظم السجناء بنية. ويكمن هذا الامر جزئيا في المناخ المحيط بالمعتقل. فلما كان الاخير يقوم جنوب بيروت، وفي مترفع من جبال حرمون اللبنانية، وجدته خانقا في الصيف وجليديا في الشتاء. ويحدث، كذلك، ان يحل الثلج ضيفا على هذه المرتفعات.‏‏
اما الابنية، شأنها في كل البلدان ذات المناخ الحار، فليست معدة لمجابهة البرد على الاطلاق. وليس في الزنازين مياه جارية، انما حرمان النزلاء فيها من كل شيء هو المبدأ. والمعتقلات يملكن اغطية وفرشا عتيقة محشوة بالاسفنج لينمن عليها. اما البطانيات فكانت نادرة، وفوق ذلك فقد رأيت المعتقلات المبنية على اسوأ هيئة تحيل ارضها بؤرة للامراض والعلل. فالرطوبة، اذ تخرج من الارض، وتنسل بين ثنايا الفرش عبر التكاثف، تنخر عظام السجينات نخرا وتجمدها. بالاضافة الى فرش القش وانابيب الحديد لنقل الماء، كانت السجينات يتبادلن دلوا من البلاستيك لوضع البراز فيها، واحيانا يكون هذا الاخير بلا غطاء. وكانت هذه الدلاء تفرغ مرتين يوميا، في عز البرد وفي قيظ الصيف، على حد سواء. والواقع ان هذا الدلو هو بمثابة وعاء من بين اوعية كثيرة هُيَّئت بالاساس، لتكون صفائح يخزن فيها الزيت للمطبخ. بالطبع، كانت النساء محرومات من العناية بانفسهن في الحدود الدنيا. اذ توجب عليهن، مثلا، ان يصنعن لانفسهن فوطا صحية من خرق اثوابهن، ويغسلنها باستمرار ويعدن غسلها مرات ومرات.‏‏
ايقاع الحياة ثابت في معتقل الخيام‏‏
توقظ السجينات فجرا ويتناولن فطورا بسيطا للغاية. ويكون عليهن ان ينظفن الزنزانة حيث هن، ثم يتناوبن في الخروج كل بدورها لافراغ الدلو، وفي الاستحمام داخل غرفة ضيقة اعدت لهذا الغرض، وتعود بعد ان تملأ صفيحة المياه المخصوصة بهن. وكانت اوقات خروجهن من الزنزانة محسوبة حسابا شبه عسكري، ومحددة بخمس دقائق، ليس الا. ومن تتأخر منهن تنال عقوبة شديدة. وعند الظهر، يحمل غداء ضئيل الى الزنازين. وفي منتصف العصر، تقدم بعض الاطعمة. اذا، كانت آونات النهار الثلاثة هذه وحدها تمنح المعتقل حيوية لافتة. اما بقية الوقت فكان الصمت هو القاعدة، ومن يجرؤ على الصياح ينل عقابه. وكذلك فان السعال ممنوع. وعليه يمكن للسجينات ان يتحادثن بصوت خافت، داخل الزنزانة نفسها، الا ان تبادل الاحاديث مع النساء في زنازين اخرى ممنوع، لدواع امنية.‏‏
وكانت السجينات، في زنازينهن، محرومات من أي اتصال بالخارج. والزيارات اليهن كانت ممنوعة. ايضا، حتى ولو عزم القيام بها عائلاتهن المقيمة في نواحي الخيام، وعلى بعد كيلومترات قليلة منها. اذا، لا شيء بوسعه ان يبدل هذا الوضع اليومي البائس الذي بتن يعشنه. وسواء اكن اعتقلن في خلال عملية للمقاومة او اخذن من اسرَّتهن عنوة، فان السجينات جميعهن في السهم سواء. فالثياب التي كن ارتدينها قبيل الاعتقال ظلت مقتنياتهن الوحيدة. ويرحن يغسلنها ويخطن فيها، الف مرة ومرة، يعرنها لرفيقات بائسات ويستبدلنها بأخرى، حتى تصير هذه الثياب، آخر المطاف، خرقا بالية. نظريا لم يكن مخزون البناطلين، واثواب البحر والفساتين ليُغذَّى الا بمناسبة الاعتقالات الجديدة والواسعة. ولحسن الحظ، كان يمكن لعائلات المعتقلات من المنطقة المحتلة، ان تدخل الاثواب الى بناتها بالحيلة وبالرشاوى تقدمها للحارسات. وصار من العرف ان تترك السجينات، اللواتي يصدر امر باخراجهن من المعتقل، لرفيقاتهن الباقيات، املاكهن المنقولة الاكثر متانة ومقاومة للزمن.‏‏
وكان من شأن الطعام الهزيل وانعدام الراحة الذي تتميز به الزنازين ان ساهما في تنامي الامراض داخل اجساد انهكها الاستجواب وهدتها عمليات التعذيب المتواصلة والمكثفة. والمعتقل الذي كان يؤوي اكثر من مئتي سجين احيانا، رجالا ونساء، وجدت فيه ممرضين اثنين، وغالبا ما تواجد فيه ممرض واحد فحسب. اما المهارات والادوات التي كان عليها جسم التمريض هذا فكانت محدودة للغاية. وكان اجدى بالسجين الا يقع مريضا في معتقل الخيام، ذلك انه من العسير للغاية ان ينال المريض الاذن من سلطات المخيم بالاخلاء الى المستشفى الاقرب، القائم في مرجعيون. كما يحسن بالمرء، ايضا، الا يتذمر او يتمرد على الانظمة، لان اعمال الانتقام في حقه تعاجله، ليكون عبرة لمن اعتبر، فاذا نصيب المتمردين والمتمردات الضرب واللكم الشديدان وايداعهم (او ايداعهن) في الحبس الانفرادي مددا متفاوتة.‏‏
حين يصل الرجال الى معتقل الخيام، يتلقى كل منهم لباسا رسميا واحدا باللون الازرق، ويكون من القماش ذاته، الذي يخاط منه غطاء الراس الذي يضعه السجناء حين يخرجون من السجن. اما ظروف حياة هؤلاء فهي اشد قساوة من ظروف النساء، لاسباب عديدة واهمها ازدحام زنازينهم بالسجناء واستخدام الحراس عندهم للقسوة! استخداما مفرطا. ومن اهم الاسباب كذلك، استخدام الحبس الانفرادي في حق الرجال، على نحو شائع لديهم. فاذا ما عوقبت امرأة بالحبس الانفرادي، وضعت في ما يشبه العلبة ذات الخمسة والثمانين سنتيمترا عرضا، والمترين والخمسين ارتفاعا، وتظل قادرة فيها على الحراك. اما الحبس الانفرادي للرجال فهو مثابة كابوس حقيقي: اذ لا يعدو الحبس كونه مكعبا، لا يتجاوز كل جانب فيه التسعين سنتيمترا، وقد اعد في جانب منه ثقب صغير. والسجين الذي يوضع في حبس كهذا، غائرا في الارض، منطويا على نفسه، مكوما على ذاته، يدرك انه لن يسعه القيام، بالتأكيد، ولا الحراك الا لتناول طعامه. ويحدث ان يرفعه جلادوه، الى حين، لكي يغتسل، وبسرعة قياسية، ليعود الى مخبئه. وفي هذه الظروف الموصوفة، رأيت سجناء اقاموا في حبسهم الانفرادي، وفي حياة ظليلة او يكاد، اشهرا بطولها وهم يحملون في اجسامهم عقابيل امراضهم، وآلاما مبرحة في العظام، او اضطرابات في رؤيتهم. حتى ان احدهم صمد حيال هذه المعاملة غير الانسانية سنة ونصف السنة.‏‏
وتتويجا لهذا كله، كان التضامن الذي يفترض به ان يعم السجناء كلهم على نحو طبيعي، موضعا للشبهة على الدوام. وحالما تعتقل امرأة، تخضع للاستجواب، ثم ترسل الى الحبس الانفرادي، كلما انقضت جلسة استجواب وتعذيب. غير انها نادرا ما تكون وحدها، ذلك ان رفيقاتها في السجن يكن مدفوعات من قبل "جيش لبنان الجنوبي"، الذي يؤملهن باختصار سجنهن، شرط ان ينلقن لرجاله بامانة الاحاديث التي تسر بها الوافدة الجديدة اليهن. في هذا الشأن، وكان احد معارفي قد حذرني مسبقا من هؤلاء السجينات اللواتي يبدين تعاطفهن الكلي معي، ويظهرن تفهما مبالغا لامري، في حين يكن كامنات لي، ليغتنمن فرصة كبوتي وارهاقي المتراكم بعد ساعات وساعات من سوء المعاملة والتعنيف، لينتزعن مني، وعلى حين غفلة، المعلومات التي استبسلت لابقائها طي الصدر. ثم ان هذه "الخراف السوداء"، المندسات في الزنازين، كن يتحن، لسلطات السجن، الكشف عن الحيل والمهارات التي قد تلجأ اليها السجينات للتملص من الاجراء المفروض، او للالتفاف على الحبس الانفرادي. وعليه، فقد توجب على كل سجينة ان تضبط نفسها وتراقب الاخريات. واقتضى من كل منا كذلك، التنبه الى كل كلمة او حركة غير متوقعة بين أي سجينة وحارسة. وان تظهر كل انواع التواطآت الحاصلة في أي زنزانة. ولا اظن الامور لدى السجناء الرجال، اشفى حالا منه لدى النساء.‏‏
غير ان الضغوط التي ما برحت تمارس على السجينات كانت تمس امورهن الاكثر حميمية. ولطالما انطوت قاعات الاستجواب على ابشع انواع المناورات. وقد روت لي احداهن ذات يوم، قصة شابة اعتقلت من دون أي سبب خاص للغاية، فاغواها احد مستجوبيها. اذ توصل الى اقناعها بممارسة الجنس معه، موطنا نفسه على الزواج بها، فرضخت للامر واقتنعت بصدقية الرجل، وبأن ذلك من شأنه تيسير تحريرها بلا شك. غير انها سرعان ما اكتشفت انها وقعت في الفخ الذي نصب لها، وان بكارتها المفتضة انما تجعلها عرضة لابتزاز متواصل، حتى في حال عودتها الى كنف عائلتها. ثم انها وجدت نفسها، فوق ذلك، عاجزة عن البوح لاحد بمسلكها المشين في نظرها.‏‏
والحال ان معتقلات الخيام كن موضعا للتلاعب بهن بالمقدار نفسه الذي وجدن انفسهن فيه محرومات من أي معلومة تأتيهن من الخارج. ماذا يجري في لبنان وفي العالم؟ لا احد يعرف شيئا عن الامر. ولكم كان المعتقلون يدينون لحراسهم لادلائهم بنتف من المعلومات المتبادلة معهم، على نحو لا ارادي، او لنسخ نادرة او لصفحات من الجرائد يمكن ان تختلس اختلاسا في مناسبة المناقلات في السجن او في الطريق الى الاستجوابات او الحمامات. ويحدث، ايضا، ان يرمي المستجوبون معلومة في وجه ضحاياهم، اذا كانت تفيدهم حقا، من دون ان يتميزوا صحتها او يتضح لهم انها محض تلفيق.‏‏
وهكذا، امكن لي، انا الموقوفة في اواخر العام 1988، الاطلاع على سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي. وبالمقابل تناهت الي، وان متأخرا قليلا، اخبار اندلاع حرب الخليج التي تلت ضم العراق للكويت في العام 1990، كما أُنبئت بانتهاء الحرب الاهلية اللبنانية، وقد ختمت باتفاق الطائف، الذي ناقشته الاطراف اللبنانية في المملكة العربية السعودية. وكذلك الامر علمت بانطلاق المفاوضات على المسار "الاسرائيلي" ـ الفلسطيني، والتي وضعت حدا نهائيا لانتفاضتي الحبيبة،اثر الاتفاقات المعقودة في اوسلو، من العام 1993.‏‏
وفي ما يتجاوز جلسات التعذيب والافراد في القسوة حيال السجناء، كان لمعتقل الخيام ان يشهد في تشرين الاول/ اكتوبر من العام 1989،ازمة بالغة الحدة، اذ عمت حالة من التمرد الحقيقي بين المعتقلين احتجاجا على ظروف الحياة القاسية التي يحيونها. وكانت شرارة التمرد الاولى انطلقت من زنازين الرجال، الذين مضوا يضربون الابواب ضربا شديدا، ويطلقون صرخات موقعة مكبرين: "الله اكبر ! الله اكبر!". واذ كان السجناء بلغوا حد اليأس من استجابة مطالبهم، رأيتهم كتلة واحدة في مواجهة جلاديهم.‏‏
وفيما اخذت حركة الاحتجاج تتسع، تسارعت ردود المستجوبين والحراس وازدادت قسوتهم في قمع السجناء. وصودف مرور "ابو نبيل" في سجن النساء، وكان يقسو في ضرب احداهن، وهي كفاح. وما ان انتهى حتى اشار الى احدى الحارسات باخذها، فعمدت الاخيرة الى سوقها من زنزانتها ورمتها في غرفة الحارسات، حتى انتهى بها المطاف الى بيت الطاعة القائم في معزلها، وفي نفسها قدر من الخوف اكبر من الالم. ولما كانت رفيقاتها قد رفعن الصوت عاليا واخذن يحتججن، شأن زملائهن،على هذه القسوة المستديمة، اصر "ابو نبيل" عليها ان تطلب من المعتقلات الاخريات العودة الى الصمت. فرفضت كفاح. وللحال انهال عليها بالضربات والصفعات واللكمات، حتى اشبعت منها.‏‏
اما الرجال فقد دفعوا ثمن تمردهم اضعافا مضاعفة، وقد رميت القنابل المسيلة للدموع في زنازينهم المكتظة، وكان المخبرون الموجودون في السجون يرجون الحراس حتى يخرجوا الجرحى. ومضى السجناء يطالبون بالحديث مباشرة الى "الاسرائيليين".‏‏
وبالفعل، لم يمض وقت كثير حتى وصل "الاسرائيليون"، غير ان القمع لم تخف حدته، انما تعاظم حتى لا شفقة فيه ولا رحمة. اما المحرضون، او الذين اعتبروا كذلك، فقد اخضعوا لجلسات تعذيب رهيبة.‏‏
رجلان سقطا شهيدين في هذه الحركة‏‏
في اثر هذا التمرد، اتخذت سلطات المعتقل بعض الاجراءات لتحسين الوضع الحياتي فيه. فقد منحنا نحن السجينات، اكياسا "اسرائيلية" عتيقة للنوم ودلاء صحية، غير ان الرجال، الذين لم يتسن لهم ان يفرغوا دلاءهم هذه الا مرة في الاسبوع، فكان مقدرا لهم ان يحيوا في النتانة المهينة.‏‏
وفي السابع من ايلول/ سبتمبر عام 1992، شهد معتقل الخيام حادثا من نوع آخر. فقد مزق سكينة الليل دوي هائل قريبا من جدار السور المحيط بالمعتقل، فاخذ الهلع بنفوسنا وأوقظنا. ماذا يجري؟ وكانت غالبية المعتقلات، شأني، على يقين بان مجموعة من المقاتلين تحاول ان تشق طريقها الى المعتقل.‏‏
اطلقت صفارات الانذار. وكان الحراس يظنون للوهلة الاولى، ان في الامر كلبا تائها في حقول الالغام المحيطة بالمبنى. وما لبثوا ان وجدوا رجلا جريحا، مشلول الحركة وسط المنطقة المحظورة على المشاة، بعد ان اطلقوا قنابل مضيئة على محيط المعتقل. وسمعت الممرض يحض الحارس على تقلد سلاحه. فأجابه الاخير بانه لا يريد ان يموت دفاعا عن "الاسرائيليين" في هذا المكان. وعاود السكون معتقل الخيام قليلا قليلا. وظل جنود "جيش لبنان الجنوبي" مسمرين في مخابئهم، ينتظرون "الاسرائيليون" الذين قدموا الى المكان، متأخرين ومدججين بالاسلحة. امكنني ان اتعرف الى صوت احدهم وهو يستجوب الرجل. ولما اطمأن "الاسرائيليون" الى ان الرجل الجريح معتقل في السجن، وقد حاول الفرار، قرروا اخراجه من حقل الالغام.‏‏
واتضح، فيما بعد، ان الرجل بترت يده اليمنى واقتلعت احدى عينيه، بانفجار لغم فيه. وكان الرجل مشاركا في عملية فرار قام بها برفقة ثلاثة من زملائه المعتقلين. وجاء "الاسرائيليون" وبعد جهود مضنية استمرت ساعتين متواصلتين، تمكن "الاسرائيليون" من اجتياز الامتار السبعة الفاصلة بينهم وبينه. وما ان اقترب احد الجنود "الاسرائيليين" ساعيا الى نقله على حمالة، حتى علا صوت "ابونبيل" الجاثم على احد اسطح المعتقل، تتردد اصداؤه: "انتبه، ربما يكون مسلحا" فسارع الجندي، منذهلا، الى تركه يسقط ارضا. غير ان شيئا من هذا القبيل لم يحدث، فاخلي الرجل الى مستشفى مرجعيون.‏‏
انطلق "اسرائيليون" وافراد من جيش لحد آخرون في اثر الفارين. غير انهم لم يجدوا اثرا، على الرغم من العتاد والوسائل التي كانت بحوزتهم. ولما كان احد الفارين الثلاثة قد اصيب اثناء عملية الفرار، فقد التمس من زميليه ان يتركوه ارضا لئلا يؤخر فرارهما.‏‏
وبهذا وحده تمكن "الاسرائيليون" من وضع يدهم على هذا الفار الجريح. ولكنه سرعان ما فارق الحياة في المستشفى متأثرا بجراحه. اما المعتقلان الآخران اللذان واصلا ركضهما، فقد امكنهما اجتياز المنطقة المحتلة. هذان كانا الفارين الوحيدين من المعتقل، مدة اعتقالي في معتقل الخيام.‏‏
وردت سلطات المعتقل على عملية الفرار هذه بتشديدها اجراءات الامان على الابواب والنوافذ، فجهزت الاولى بقضبان اضافية، وبتقليص الخدمات الموكلة الى السجناء الى حدها الاقصى، ولا سيما ما تعلق منها باعمال الصيانة في السجن، ما دام ان الفارين اغتنموا فرصة قيامهم بهذه الاعمال لتحضير فرارهم. وصار الحراس يقومون، كل مساء، بتفتيش الزنازين تفتيشا دقيقا.‏‏
وما زالت اصوات الضربات الموقعة على النوافذ التي راح السجناء يؤدونها يوميا، تضامنا مع زملائهم الفارين، ما زالت هذه الاصوات تتردد في مسمعي، الى يومنا هذا.‏‏
09-شباط-2008
استبيان