المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


اسرى لبنان

عائدون بالنصر إلى حضن أرضهم مخيمات بيروت ستزحف لملاقاتهم هكذا تنتظر عائلات فلسطينية اليوم عودة جثامين شهدائها

جريدة السفير - 16/7/2008
فاتن قبيسي


لم تعد مظاهر البؤس وحدها تجمع اليوم بين المخيمات الفلسطينية في بيروت والضاحية. ثمة قاسم مشترك إضافي طرأ في الايام الاخيرة. إنها صور الأسير سمير القنطار، ومن حولها صور عدد من الشهداء الفلسطينيين، واسماء العمليات العسكرية، عادت كلها لتزنر مداخل المخيمات وبعض أزقتها. على رأسهم الشهيدة دلال المغربي، والشهداء الثلاثة الذين نفذوا عملية "معلوت ـ ترشيحا"، وهم زياد كعيك، علي حسن العتمة، ومحمد مصلح الدردور.
يؤكد بعض اهالي المخيمات ان جثامين الشهداء الثلاثة ستشملها عملية التبادل، مرتكزين الى الاعلام الاسرائيلي. ويستعيدون بفخر ظروف العملية التي كانوا نفذوها في العام ،١٩٧٤ بهدف اطلاق سراح ٢٦ اسيراً فلسطينياً. وقد سقطت على اثرها الحكومة الاسرائيلية آنذاك.
صور شهداء آخرين إما مرفوعة، وإما مرسومة على جدران الاحياء. "تؤازرها" صور الشهيد عماد مغنية في مخيم مار الياس.
الملصقات ذات العبارات الواعدة بالنصر تحتل اكثر من مكان في مخيم برج البراجنة. تقابلها اقواس النصر التي تزين الشارع لجهة طريق المطار. وبما ان هذا المخيم يشكل بوابة الضاحية، فان "الجبهة الديموقراطية" اعدت الفرق الكشفية والموسيقية لاستقبال الاسرى، لدى مرور موكبهم من المطار، "وسيزحف المخيم لاستقبالهم، بحسب مسؤول الجبهة في المخيم "احمد مصطفى"، كما سيشاركون في المهرجان المركزي الذي سيقيمه حزب الله في ملعب الراية".
"انا اخت الشهيد"، انا ام الشهيد"، "أنا قريب الشهيد" عبارات تتردد في كل من مخيمات البرج، مار الياس وشاتيلا. وبالرغم من انه لدى الفصائل الفلسطينية مئات الشهداء في المقابر الإسرائيلية، فإن العثور على عائلات تنتظر جثامين شهدائها اليوم ليس سهلاً. ثمة شهداء غادر اهاليهم الامكنة، وهاجر بعضهم الى سوريا، الاردن وبعض الدول الاوروبية. وآخرون دفنوا اما لشمولهم في عملية التبادل التي نفذت في العام ،٢٠٠٤ واما لسقوطهم خلال حروب المخيمات او معارك تل الزعتر.
"لأفجر نفسي في فلسطين"
منذ ثلاثة ايام بالكاد تفارق الحاجة ريا عبادي جهاز التلفزيون. تغادر منزلها في مخيم شاتيلا لتقضي سويعات في زراعة السهل في الدامور، ثم تعود سريعاً لتصمد مجدداً امام الشاشة. فكل شيء من حولها ينطق بالخبر الاستثنائي: عملية تبادل الاسرى.
تتأرجح ردة فعل المرأة بين الغضب تارة والحنين طوراً. لا تدرك كيف لها ان تعيش انفعالاتها. اتنتظر ابنها خالد عبد الله حياً ام شهيداً؟ هل ستفرح بمعانقته ام انها ستحتضن جثمانه قبل ان يغطيه التراب؟ والأهم من ذلك، هل سيكون لها نصيب في عملية التبادل هذه، ام انها ستعود مع انتهائها الى حيرتها الناتجة عن غموض مصير ابنها؟
طال شوقها الى خالد، وقد افتقدته باكراً، خلال انخراطه في مواجهات مع "اسرائيل" في العام .١٩٨٢ كان قائد مجموعة في قسم الدفاع الجوي في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ولم يتجاوز آنذاك الثالثة والعشرين من العمر.
لا تنفك تستعيد صورته الأخيرة وعبارته الوداعية: "كنت عم حوّش بندورة. رجع عالبيت، شلح اواعيه ولبس بدلته. وقال لي: يا امي انا ماشي. وما بعرف شـو بيصير علينا".
وريا الام الثكلى كانت قبل ذلك ذاقت طعم الفقدان. خسرت زوجها احمد وابنها عبد الله خلال معارك تل الزعتر في العام .١٩٧٦ ولكنها لم تعتد الغياب. بل ان افتقاد خالد قصم ظهرها.. "إنه توالي ضربات الدهر" تقول.
"كان خالد قاعد عالمدفعية مع شابين من حلب، تضيف، والمعركة مع "اسرائيل" كانت على جسر الدامور.. ومن وقتها ما شفناه.. شو بدي أحكي؟ بقيت بالدامور لآخر لحظة حتى أشوفه. ولكن ما قدرت. كان في قصف، وانقطعت الطرقات، والناس هربت. ولكن اصريت على البقاء مع شباب "الجبهة". انسحبوا عالناعمة وأخدوني معن. ولما زاد القصف الجوي طلّـعوني بالقوة على بيروت".
ومن الماضي تفطن سريعاً الى الحاضر فتعلق: "الله اعلم اذا خالد بعده طيب. الطيبين اذا طلعوا من السجون "بينشلونا". بس الشهداء راحوا في سبيل الله".
تشعر ريا اليوم، ان لحظات الانتظار تضيف وهناً على جسدها المنهك، وعمراً فوق سنيها الثالثة والسبعين. وهي التي تحتاج الى قوة بدنية تعينها على المواظبة على عملها في الزراعة، لـتأمين قوت يومها.
يتوقع لها الناس من حولها عودة خالد اليوم "جثماناً طاهراً يرفع رأسها". فتقول بأن فرحتها لن تكتمل مع عدم وصول الجثمان الى ارض فلسطين وتسأل بتوتر: "ليش بدن يجيبوهن على لبنان؟ انا اتمنى ان يحطولي اليوم قنابل حول جسدي حتى أفجرها بالأعداء.. مش عيب نموت او ندفن خارج ارضنا؟".
"قاعد على نار"
يصف محمد شحيبر حاله اليوم بانه "قاعد على نار". يدعو الله بان يتسنى له ولزوجته اليوم احتضان جثمان ابنهما عماد. فمنذ العام ١٩٩٤ استشهد على طريق ياحون ـ الطيرة، في عملية "شهداء غزة" التي نفذت باسم "مجموعة الشهيد القائد ابو عدنان".
يبدي محمد تعاطفاً كبيراً مع زوجته، يقول انه يحاول ان يخفف عنها ويعدها بلقاء روح عماد، ثم يعلق: "بتعرفي قلب الام. في عملية التبادل التي حصلت في العام ،٢٠٠٤ وصلت الجثامين الى مستشفى "حيفا" في الثانية والنصف فجراً. فبقيت الحاجة تدور حول المستشفى لغاية طلوع الفجر، وهي تردد سائلة:" عماد معن؟ عماد إجى؟".
صورة عماد تتصدرغرفة المنزل في مخيم برج البراجنة. والحديث عن تصرفاته وافكاره وشجاعته متواصل منذ أيام. فعملية التبادل مناسبة أعادت إحياء التفاصيل في الوجدان. ٢٢ سنة قضاها عماد مع أهله، أمضاها بين الدراسة، و"الجبهة" العسكرية، ومزاولة مهنته "حدادة السيارات".
"غاب عن البيت لفترة، ثم علمنا بعد ايام باستشهاده"، يقول محمد، الذي كان يعلم بانتساب ابنه الى "الجبهة الديموقراطية"، ولكنه لم يحل بينه وبين خياره النضالي. واذا طلب احد ابنائه الثلاثة اليوم سلوك طريق اخيه، فلن يكون ايضاً حجر عثرة في طريقه. "اذا خفت على اولادي ام لم اخف. هذا هو طريقنا"، يعلق جازماً.
ولكن الغصة الكبرى في نفس محمد هي انه كتب على ابنه ان يدفن خارج ارضه. "صحيح اننا عايشين في لبنان، وقلبنا هون، ولكن تراب فلسطين غالي، والا ليش عم نستشهد؟".
"وفي كل الاحوال، يستدرك قائلاً، عندما يصل عماد.. سأشم رائحته، أقبله وسأهمس في اذنه باننا لن ننسى العهد، وسنواصل الطريق حتى ترجع فلسطين".
"نزعنا صورته لتخفيف الألم عن أمه" منذ العام ،١٩٨٢ وتحديداً يوم السبت في ١٨ ايلول، يوم تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا، رأينا جنوداً إسرائيليين وعناصر من "القوات اللبنانية" يخطفون جمال كمال معروف ويضعونه في سيارة، ولم يعد حتى اليوم.
بهذا يبدأ الحاج كمال سرد حكاية ابنه الذي كان عمره آنذاك ١٩ عاماً. "في يوم اختطافه كنا حصلنا على شهادة تخرجه من المدرسة الثانوية، ولكن لم يتسن له ان يفرح بها. كان الفراق اسرع، والانتظار اقسى واطول مما توقعته العائلة. وبعد مضي ٢٦ عاماً لم ينطفئ الامل بلقائه، حياً على الارجح.
يعود كمال فيقول "بان الموت حق. ولكن على الاقل من حقنا معرفة مصيره. امه مريضة، اعصابها انهارت في الايام الاخيرة، بعيد الاعلان عن تاريخ تنفيذ عملية التبادل، لم تعد تقوى على التكهنات والتخمين وخيبات الامل. اضطررت الى نزع صورة جمال من على الحائط، كي اخفف من آلام امه واخوته، الذين اصبح البكاء يباغتهم في اي لحظة".
وكمال المنتسب الى "فتح"، والذي يقطن في صبرا، ويزور دائماً مخيم مار الياس، يشارك غيره من اهالي الشهداء امنية دفنهم في ارضهم. "انه بكري في الصبيان، يقول، رزقنا الله به بعد ثلاث بنات، يرفضن التسليم باحتمال عدم لقائه اليوم. كما يتوق ابني الاصغر الى التعرف على اخيه البطل. فقد فارقه طفلاً في السابعة من عمره، ويتلهف اليوم رجلاً لعودته وقد أتمّ الثالثة والثلاثين".

16-تموز-2008

تعليقات الزوار

استبيان