المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

في ذكرى استشهاد د. فتحي الشقاقي: المقاومة عنوان المرحلة


بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان


عاش الشهيد فتحي الشقاقي، وككل أبناء الشعب الفلسطيني الذين اقتلعوا من أرضهم ووطنهم، وشردوا بأصقاع الأرض، طفولة صعبة، وحياةً جعلها الاحتلال تتلوّن كل يوم بالأسود بفعل القهر والظلم والبعد عن الأرض / الوطن. فقد ولد الشهيد فتحي الشقاقي في العام 1951، في مخيم رفح للاجئين في فلسطين المحتلة، أي بعد ثلاث سنوات من تهجير عائلته من قريته زرنوقة في قضاء الرملة إلى قطاع غزة حيث استقر بها المقام في مخيم رفح حيث تتجسد هناك معاني البؤس والفقر والحرمان.
 ونشأ الشهيد الشقاقي في ظل وضع اجتماعي فقير؛ فالأب يعمل عاملاً بسيطاً، وهو ـ أي الأب ـ الابن الوحيد لجده الذي كان يعمل إماماً للمسجد في القرية التي نشأ فيها، وقد اهتم بتربيته تربية دينية، وكان يحضّه على الصلاة، ويرتل القرآن أمامه، فأثّرت هذه الأجواء الإيمانية في محيطه بالإضافة إلى ظلم الاحتلال والواقع المرير في بلورة شخصية الشهيد الشقاقي.
وتحمّل الشهيد الشقاقي مسؤولية أسرته باكراً، فقد توفيت والدته وهو لم يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، وتركت معه طفلاً رضيعاً. ورغم أنه نشأ مع أخيه خليل وحيدين في غرفة قرميد في مخيم الشابورة، إلا أنه أصر على مواصلة دراسته مع أنه وأخيه كانا يقرآن على مصباح الكاز، ورغم كل الظروف الصعبة كان الشهيد الشقاقي يحصل على المرتبة الأولى في المدرسة، وأولاد الحارة يأتون إليه ليعطيهم الدروس. وكان مولعاً بحب كرة القدم.
وكانت والدة الشهيد الشقاقي تحثُّه على المطالعة وتزرع فيه حبها. وبعد موتها أصبح يكتب لها كل عام رسائل حزينة شفافة تنم عن الرقة والمعاناة. وهي التي فارقته وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر، كما ذكرنا سابقا.
وبعد هزيمة العام 1967، وسقوط القدس والأطروحات العلمانية ورموزها التزم الشهيد الشقاقي الإسلام فكراً وسلوكاً وعلى جميع المستويات، يقول: «في هذا اليوم سقطت رموز وأشياء وأوهام كثيرة في حياة الأمة ولم نجد مع الأمة سوى الاعتصام بالله كمخرج من الأزمة ولتحقيق التوازن النفسي، والانطلاق تحو آفاق أرحب وعلى أسس أكثر رسوخاً وقناعة».
وفي عالم 1974 انتقل إلى مصر والتحق بجامعة الزقازيق لدراسة الطب، والتقى بعدد من الشباب الفلسطيني ودارت بينهم مناقشات عديدة كان محورها السؤال الفلسطيني. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، ألّف الشقاقي كتاباً بعنوان «الخميني الحل الإسلامي والبديل»، واعتقل على إثره، وعمل في مجلة «المختار الإسلامي» لمدة 27 شهراً، وبعد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات اعتقل مرة ثانية على خلفية الاشتباه أن له علاقة بالمنظمة التي نفذت عملية الاغتيال، فأبعد من مصر وعاد إلى فلسطين حيث عمل طبيباً في مستشفى "فيكتوريا" في القدس ثم فتح عيادة خاصة في غزة.
واعتقلته قوات الاحتلال في العام 1983، وسجن لمدة أحد عشر شهراً على خلفية المسؤولية والوقوف وراء مجلة الطليعة الإسلامية. وإثر سلسلة من العمليات الجريئة التي نفذتها مجموعات مسلحة من حركة الجهاد، بدأت في العام 1984. وشهدت تصعيداً في العام 1985، اعتقل الشقاقي وعدد من إخوانه. وأصدر إسحاق رابين عام 1988 أوامره بإبعاد الشقاقي إلى خارج فلسطين لتبدأ مرحلة جديدة من الجهاد وعلى عكس ما أراد المحتلون.

استشرافه للمستقبل

وفي كلمات تعبّر عن مدى استشرافه للمستقبل، يقول: "من يأخذ قراراً باغتيالي سيدفع الثمن مستقبله السياسي"، وفعلاً هذا ما حصل فبعد أسبوع واحد من اغتياله وارتقائه شهيداً، تجندل رابين برصاصات حاقد صهيوني آخر ليكون الانتقام انتقام السماء لمجاهد قابض على جمر الحق، لم يتنازل عن مبادئه حتى لقي ربه ثابتاً عليه ولم يبدّل تبديلاً. وقد عبّر عن هذا الثبات في قصيدته (حكاية من باب العامود) بقوله: «تلفظني القدس إن كنت نسيت، تلفظني الفاء، تلفظني اللام، تلفظني السين، تلفظني الطاء، تلفظني الياء، تلفظني النون، تلفظني كل حروفك يا فلسطين، تلفظني كل حروفك يا وطني المغبون... إن كنت غفرت أو كنت نسيت».

هدف العدو

تمرّ ذكرى سنوية أخرى على استشهاد القائد د.فتحي الشقاقي في ظروف عصيبة على شعبنا الفلسطيني، ومخاض أليم يتحدد على أثره انتصار شعبنا وأمتنا وقوتها، وصعود زمنها في مقابل هزيمة المشروع الصهيوني ـ الأمريكي وانتهائه.
لقد أراد الكيان الصهيوني من اغتياله الدكتور فتحي الشقاقي أن يوجّه ضربة قاضية لحركة الجهاد الإسلامي، وخصوصاً بعد سلسلة عمليات ناجحة نفذتها في الأعوام 1993 و1994 و1995 في مستوطنتي "كفار داروم" و"نتساريم" وبيت ليد... وظن الصهاينة أن باغتيالهم للدكتور الشقاقي سينهون حركة الجهاد باعتبار أنها حركة شديدة المركزية ـ حسب الصحف الصهيونية ـ، وأن اغتيال القائد المركزي في الحركة سيجعلها تترنح ومن ثم تفقد حضورها ووجودها أيضاً.
وخاب أمل الكيان الصهيوني عندما صمدت وظلت حركة الجهاد، بقيادة الأمين العام  د. رمضان عبد الله شلح على عهدها ووعدها ومبادئها التي نشأت عليها.
... من جديد تبرز كلمات الشقاقي، ويسطع معها الأمل ليتواصل الشهداء عبر السيف وسطوع شمس النهار عبر كلماته: «ملعون من يساوم، ملعون من يتراجع، ملعون من يقول لكيانهم المسخ: نعم، فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم».

وفي هذا يقول د.رمضان شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: «لقد جعلت حركة الجهاد الإسلامي من سورة الإسراء ـ في القرآن الكريم ـ والتي تُسمى سورة بني إسرائيل، وِرْداً يومياً في خطابها السياسي والتعبوي».
ويضيف د.شلّح: «إن فلسطين هي بوابة العرب والمسلمين التاريخية والجغرافية لأي دور حضاري عالمي راهن أو مستقبلي. لذا فإن أي محاولة للنهوض لا تبدأ بفلسطين ستضل الطريق لأنها ستُحاصر وستُضرب ولا تجد من يبكيها.. ولا أشك لحظة أنه لا حياة لمشروع عربي أو إسلامي نهضوي إلا بموت المشروع الصهيوني».
ويقول د.الشقاقي «إنه كان يلحظ لدى المجموعات الفلسطينية في فلسطين هروباً من الإجابة على السؤال الفلسطيني.. وذلك في الوقت عينه الذي كان يلاحظ فيه تشوقاً كبيراً لدى الشباب وبين موقف القيادات الإسلامية بكافة مسمياتها، فيشعر بضرورة صدور قرار سياسي عن تلك القيادات سواء ارتبطت بالإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو المجموعات الصوفية أو كافة المجموعات الأخرى ليتم تغيير وجه المعركة في فلسطين وإعطائه بعده الحقيقي والضروري وهذا ما حدث».
من هنا أحدث الفكر الإسلامي المعاصر تجاه فلسطين الذي قاده الشقاقي وإخوانه ـ تحولاً هاماً أصبح اليوم واقعاُ محسوساً وملموساً، وخصوصاً تجاه مفاهيم كانت غير مقبولة ومرفوضة بل وتعتبر من الأعمال غير الإسلامية (كموضوع الوطنية، والتحالفات مع القوى غير الإسلامية..) ويأتي هذا التحول من خلال إدراك جوهر المشكلة، وأبعاد القضية ووضعها في إطارها الصحيح، والاتجاه الحقيقي.
وهكذا فإن الفهم الأساسي لهذه المشكلة المتمثلة بالاتجاه «التراثي» الذي لم يدرك أبعاد وجوهر التحدي الغربي الحديث لعالمنا الإسلامي، والاتجاه الآخر «الحداثي» الذي حاول نقل تجربة الغرب لعالمنا الإسلامي دون إدراك الخصوصيات الذاتية والموضوعية لهذه التجربة عدا عن ذلك الالتفاف على الإسلام، بل ومحاربته في بعض الأحيان.
وعن هذا كتب المفكر الإسلامي د. محمد مورو: "كان الدكتور فتحي الشقاقي يحلم بحركة إسلامية معاصرة، تتجاوز فكرياً وحركياً كل الأخطاء السابقة، حركة ترى نفسها مجرد حلقة من حلقات الكفاح الإسلامي سبقتها حلقات وتتبعها حلقات، حلقة تكون طليعة للأمة وخميرة للنهضة وليست بديلاً عن الأمة، حركة تجعل التنظيم أداة وليس غاية، حركة تنطلق من اعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، حركة تنفتح على الجميع انطلاقاً من ثوابتها فلا تعزل نفسها ولا تنفصم عن جذورها الفكرية والعقائدية في الوقت نفسه".
..وبحسب الدكتور الشقاقي فالقضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة الإسلامية لأن إسرائيل جزء من مشروع الهيمنة الغربية وهي آخر مراحل الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فإما أن ننتصر وإما أن يتحقق الهدف الغربي والإسرائيلي في القضاء على الحضارة الإسلامية. وبهذا الصراع لا يتحدد مصير حضارتنا على أرض فلسطين، بل مصير العالم بأسره. وهذا الصراع صراعاً حضارياً، أي صراع وجود وليس حدود فإن المفاوضات والحلول الوسط وما يسمى بالسلام هي مجرد أوهام وفخ لاستدراج القوى المناضلة إلى مستنقع الخيانة، وأن إسرائيل بكاملها كيان غير شرعي، وأنه لا حل هناك سوى الأيديولوجية الإسلامية وحرب التحرير الشعبية لتحرير كامل التراب الفلسطيني، وأنه ينبغي أن يشارك في ذلك الصراع كل فلسطيني وكل عربي وكل مسلم وكل مستضعف.
وبحسب مورو أيضاً فإن "طبيعة الصراع، وطبيعة تركيب المجتمع الإسرائيلي، وطبيعة المواجهة مع الغرب تستدعي إسلامية الصراع بالضرورة، ويستدعي تلك الإسلامية أيضاً أن جماهير أمتنا لا تتحرك إلا من خلال وجدانها الديني".
ويكتب الشيخ نافذ عزام، أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي عن الشعار الذي بات دالاً على منهج الجهاد الذي جاء به الشقاقي وأصبح بمثابة "ألمانيفستو الإسلامي" الذي يلهب العواطف والمشاعر ويحرك العقول ويوجه الفعل والسلوك.. كان الشقاقي يعرف أنه بذلك يدخل حقل ألغام كبير، لأن استحضاره لعنصر العقول سيغير كثيراً في معادلة الصراع وخارطة الفكر والممارسة، وسيقابل بردات فعل متباينة داخلياً وخارجيا، وإضافة لذلك فإن ميلاد حركة جديدة إسلامية مقابلة تحمل رؤية واضحة للصراع وأبعاده، وللقوى المختلفة المؤثرة لن يقابل أيضاً بترحاب من التيارات الموجودة في الساحة الفلسطينية، هذا كله غير الشراسة التي سيتعامل بها الاحتلال مع المشروع الجديد... ورغم كل ما سبق مضى الشقاقي في طريقه نحو إعلان المشروع الجديد، ودون أي دعم تقريباَ من أي جهة أو دولة أو هيئة، وبدأ الشقاقي رحلته وكان أهم ما يميزه هو الإيمان بإمداد الله، وإصراره العظيم على نشر الفكرة الجديدة مهما كلف ذلك، كان القائد المؤسس يدرك أنه يعيش مرحلة تحول كبرى في التاريخ، وأن حضور الإسلام ضرورة سننية وتاريخية، وأنه رغم تقديره لما قام به الفدائيون الفلسطينيون لا يجوز التأخر في طرح النظرية الإسلامية المتكاملة تجاه فلسطين، وأنه لا يجوز التأخر أكثر من ذلك عن القيام بالواجب الشرعي في طرح الجهاد كمنهج وممارسة وبرنامج ليعادل الخراب المنتشر...

غرس مفاهيم الجهاد

ومن الأمثلة الواقعية التي يشهد بها لحركة الجهاد الإسلامي جديتها في غرس مفاهيمها، ومنظومتها الفكرية لدى قطاعاتها، مما لا يدع مجالاً للشك حول أهمية هذه الفكرة التي زرعها ـ الشقاقي وإخوانه ـ في عالم لا يرى إلا بمنظار صهيوني واحد مع ادعائه رعاية حقوق الإنسان والعدالة... والتدليل على ذلك من خلال نص واحد فقط، اعتقد أنه كافٍ لذلك، من خلال وصية الشهيد خالد شحادة منفذ عملية «حولون» والتي قال فيها:
«هذا هو قدرنا... قدرنا أن نقوم بواجبنا المقدّس، وهذا القدر الرباني الذي نحياه لا يعني إلا استمرار تواصلنا الحضاري الذي انقطع منذ عدة قرون، واستمرار جهادنا نحو وجه الله... وقدرنا أن نكون أهل وأبناء هذا الوطن المنكوب الذي تمكّن فيه العدو الصهيوني وأعوانه من اغتصاب كل شيء، فإذا ما تأملنا حولنا ماذا نجد؟ إنسانيتنا مداسة، حريتنا مصادرة، إرادتنا مسلوبة، ولا نملك من أمرنا شيئاً بالله عليكم ما الذي يجبرنا على هذه الحياة، وما الذي بقي لنا حتى نحرص عليه».
ومن هنا فإن أكثر ما يميّز د. الشقاقي كشخص، الانفتاح على الآخر، والتعاون مع الذين يحالفونه في الآراء، فقط كان دوماً يردد «لنطرح خلافاتنا جانباً، ولتكن فلسطين هي الأيديولوجيا التي نعتنقها.. وبعد تحريرها لنختلف كما نشاء».
وهكذا لقد استطاع الشقاقي مع إخوانه إيجاد حل لمشكلة مزمنة ألا وهي "إسلاميون بلا فلسطين، ووطنيون بلا إسلام"، ولم يتم الوقوف عند ذلك فقط، بل أصبحت أيديولوجيا معجونة بدم الشهداء، وظاهرة حيوية على مدى الوطن.
وتميّزت حركة الجهاد الإسلامي عبر مسيرة جهادها بالجدية والتفاني المطلق، وهذا يتضح من خلال الإصرار اللاهب على الالتحام مع العدو الصهيوني عبر العمليات الاستشهادية البطولية «بيت ليد، كفار داروم، القدس، حيفا، مجدو..»، وعبر المواجهة المسلحة: «عملية زقاق الموت في الخليل، جنين، الصمود المذهل في غزة..». أو عبر العمليات البحرية «عملية بحر غزة..»، أو عبر عمليات إطلاق الصواريخ والتي أصاب خلالها مجاهدو سرايا القدس بالاشتراك مع لجان المقاومة الشعبية (11/9/2007)، قاعدة عسكرية ما أدى لمقتل جندي وإصابة نحو 70 جندياً آخرين بجروح متفاوتة.
والمتتبع لسير الأحداث يلاحظ أن حركة الجهاد الإسلامي ـ مع أخواتها من حركات المقاومة ـ قد أعطت نموذجاً رائعاً في التضحية والفداء، واستطاعت إلى حد كبير تحقيق توازن رعب عبر استخدام سلاح العمليات الاستشهادية ضد عدو مدجج بأحدث التقنيات، لكنه لا يستطيع منع إنسان يريد الاستشهاد دفاعاً عن دينه ووطنه. يقول د. رمضان شلّح: «العمليات بالنسبة لنا خيار استراتيجي، وحركة الجهاد الإسلامي حوّلته إلى قوة ردع في مواجهة قوة العدو...».
واستطاعت حركة الجهاد الإسلامي أن تكون رقماً أساسياً في الساحة الفلسطينية على المستوى العسكري والسياسي..
كما أن الجهاد ورغم حرصها الشديد على التوافق داخل الساحة الفلسطينية، إلا أنها حافظت على موقفها الرافض للمشاركة بالانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية. وكان موقفها متميزاً ومعتمداً على رصيد الرفض للمشاركة في أي مؤسسة تحت قبة أوسلو.  

المحنة

وعاشت حركة الجهاد الإسلامي فترة من المحنة الشديدة وخصوصاً بين سنوات 1996 و1999. فمن جهة زادت الملاحقات والتتبع لها ولحركات المقاومة من الأجهزة الأمنية الصهيونية، ومن جهة ثانية شنت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية حملة ملاحقات منظمة ضد مجاهدي وكوادر حركات المقاومة ومنها الجهاد. ونتيجة لهذه الحملات المنسقة بين أجهزة أمن الكيان وأجهزة أمن السلطة تم اعتقال واغتيال قادة وكوادر ومجاهدين في الحركة الإسلامية، وإحباط عدد كبير من العمليات العسكرية التي كان المجاهدون يعدونها أو في طريقهم لتنفيذها. ورغم كل هذه الإجراءات القمعية من اغتيال واعتقال لم يستسلم المجاهدون ونفذوا ما استطاعوا من عمليات ضد جنود ومستوطني الكيان الصهيوني، والتي لم يعلن عن كثير منها. وفي مقابل ذلك كانت حركات المقاومة تعضُّ على الجراح تفويتاً لفرصة قد يستغلها الصهاينة في إشعال اقتتال فلسطيني ـ فلسطيني. وأتى حصاد هذا الصبر على الأذى طيباً من خلال تفجر انتفاضة الأقصى التي أثبتت صوابية موقف الجهاد والمقاومة الداعي إلى استمرار الجهاد المسلح ضد الكيان الصهيوني، وأن طريق المفاوضات لا تجدي نفعاً مع عدو قائم على نفي الآخر نفياً مطلقاً.
وأتى تفجّر الانتفاضة ليؤكد صوابية آراء الشهيد الشقاقي وقدرته على بناء حركة استطاعت الصمود في أحلك الظروف وأقساها، يقول: «إنني لا أخاف على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، فلقد بنينا صرحاً متماسكاً... فلسطين غايته والاستشهاد أداته ووسيلته... وشبابنا في الداخل قادرون على تغيير الواقع وخلق المستقبل الذي يليق بالشرفاء والمجاهدين وبالقدس الشريف...».
ورغم أن حركة الجهاد الإسلامي خسرت شخصية رمزية وقيادية كبيرة كالدكتور فتحي الشقاقي، إلا أنها استلهمت من فكره وجهاده لإكمال طريقه واستطاع الدكتور رمضان عبد الله شلّح الأمين العام الحالي أن ينهض بالحركة من جديد رغم الضربات القاسية التي تعرضت لها وأفقدتها العديد من قادتها وكوادرها.
واستطاعت حركة الجهاد الإسلامي بقيادة الدكتور رمضان شلح أن تجدد نفسها وأن تكون حاضراً أساسياً وفاعلاً في انتفاضة الأقصى سواء عبر العمليات الاستشهادية والجهادية، أو عبر حضورها الجماهيري. ورغم قيام قوات الاحتلال بتصفية عدد كبير من قادتها وكوادرها العسكريين خلال الانتفاضة «أنور حمران، محمد عبد العال، إياد حردان، محمد سدر...»، إلا أنها استطاعت وبسرعة قياسية أن تعيد تنظيم قوتها العسكرية وأن توجه للكيان الصهيوني ضربات استشهادية عديد كان أقساها العمليات الاستشهادية في مجدو (6/6/2002)، وكركور (21/10/2002)، والخليل (15/11/2002)، وحيفا (4/10/2003)....
والتركيز في الحديث عن هذه العمليات لأن الجهاد اعتبرت أنها بعملية مجدو قد هدمت عملية السور الواقي التي أطلقها شارون للقضاء على حركات المقاومة. أما العمليات الأخرى فلأنها جاءت ـ كما تعتبر الجهاد ـ لتحقق توازن الدم بحيث لم يعد الدم الفلسطيني وحده مسفوحاً بل الدم الصهيوني أيضا. كما أنه بهذه العمليات استطاعت الجهاد أن تقتل قائد منطقة الخليل العسكرية (درور فاينبرغ)، وقائد سلاح البحرية الصهيوني السابق (زئيف المونغ)، وكذلك قائد وحدة الدوفدوفان إيال وايس والذي أعلنت سرايا القدس عن مقتله في اشتباك مع مجاهديها في قرية صيدا في طولكرم بالضفة الغربية.
وفي الختام، بنيان الشهيد الشقاقي موجود يقارع الأعداء، ونهجه ما زال يعمل على توحيد الصفوف في سبيل المعركة ضد العدو الصهيوني؛ محذراَ من الوقوع في فخاخ الشياطين الداعين للفرقة والخلاف.
وقال الشهيد عن الشهداء "الشهداء لا يموتون، إنهم أحياءٌ يهبون لأمتهم مزيداً من الحياة والقوة. قد يلغي القتل أجسادهم الظاهرة ولكنه يستحضر معنى وجودهم مكثفاً خالصاً من نوازع الجسد وثقله، متحرراً من قيوده، ويطلقُ أرواحهم خفاقةً حيةً، مؤثرةً بحجم المعاني التي قتلوا لأجلها وهم يدافعون عنها وحتى ينتصر دمهم على السيف، سيف بني إسرائيل وحلفائهم وأتباعهم".
ونختم بما كتبه في قصيدة "الاستشهاد.. حكاية من باب العامود" المنشورة بالعدد الأول من مجلة المختار الإسلامي في تموز/يوليو 1979:

ـ تلفظني الفاء،
ـ تلفظني اللام،
ـ تلفظني السين،
ـ تلفظني الطاء،
ـ تلفظني الياء،
ـ تلفظني النون،
ـ تلفظني كل حروفك يا فلسطين،
ـ تلفظني كل حروفك يا وطني المغبون،
ـ إن كنت غفرت،
ـ أو كنت نسيت...
24-تشرين الأول-2011
استبيان