المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

هكذا أحبطت إيران الحرب السيبرية الأميركية ـ الإسرائيلية: من الدفاع الى الهجوم


عبد الحسين شبيب

ما الذي حصل حتى اختفت عن الشاشة فجأة كل التهديدات الإسرائيلية والأميركية التي أطلقت منذ نحو أربعة اسابيع بشن حرب على إيران؟ ماذا تفعل القوى العظمى ـ الدولية والإقليمية ـ بنفسها عندما ترفع سعار الحرب الى ذروته ثم تسحبه كلياً من التداول، وينزل على رؤوسهم الطير، كأنهم لم ينبسوا ببنت شفة؟ ليس في الأمر مبالغة، هذا هو الحال عندما كانت خلال الشهر الماضي وسائل الإعلام تعج بالأخبار والتحليلات والسيناريوهات عن الضربة الإسرائيلية الأميركية المحتملة لايران، لا سيما بعدما جلب تقرير مفبرك لوكالة الطاقة الذرية على عجل يعزز ما يسمونه مخاوف الغرب من عسكرة برنامج إيران النووي وتزايد مخاطرها على الأمن الاسرائيلي والمصالح الاميركية؟

لا يوجد سبب مقنع لتفسير هذا التراجع الأميركي الإسرائيلي سوى أمرين متداولين حالياً يظهران خسارة واشنطن و"تل ابيب" لجولات خفيّة من الحرب الحديثة، أي تلك الحرب الاستخباراتية الساخنة الجارية خلف الأضواء، والتي تجهد لإلحاق خسائر جسيمة بقدرات إيران النووية من خلال عمليات أمنية معقدة، تمكنت أجهزة الاستخبارات الإيرانية من إحباطها وكشف واعتقال شبكات التجسس الأميركية والإسرائيلية وغيرها المتعاونة معها؛ وأيضاً تلك الحرب السيبرية التي تعد المجال الأحدث من الحروب الحديثة التي تمزج بين وسائل تكنولوجيا متطورة جداً وأساليب تقليدية لا مناص منها.
الخلاصة التي قدمها وزير الدفاع الإيراني الجنرال أحمد وحيدي مؤخراً صيغت بعبارات مختصرة ومركزة: كافة جهود الغرب (أطراف متعددة الجنسيات) في "الحرب السيبرية" (الحرب المعلوماتية) قد أخفقت ضد الجمهورية الاسلامية، و"الجيش السيبري الإيراني" عمل بشكل جيد حتى الآن، وإن اصطياد طائرة التجسس الأميركية بدون طيار خير أنموذج لانتصارات إيران في الحرب المعلوماتية.

إحباط "الديمقراطية الرقمية"

هذا الإيجاز السريع يعيد الى الأذهان الانتصارات السابقة في الحرب السيبرية، وأبرزها إحباط أجهزة الاستخبارات الإيرانية عام 2009 عملية شديدة التعقيد شرعت الخارجية الأميركية بالإعداد لها منذ أيلول عام 2006 بعد هزيمة " إسرائيل" في لبنان على يد حزب الله، وصيغت حينها نظرية أسميت "الديمقراطية الرقمية" التي تتحدث عن إمكانية إدارة "حرب ناعمة" خفية لإسقاط النظام الإسلامي في طهران. وقد صاغ النظرية فريق من خبراء الخارجية الأميركية من ضمنهم غارد كوهين، يعملون ضمن "مجموعة السياسات والعمليات الإيرانية السورية" (ايسوغ)، وهي مجموعة مشتركة بين وكالات مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ لأعمال سريّة ضد ايران بهدف تغيير النظام، وإحداث "ثورة مخملية" فيها. وقد حددت الانتخابات الرئاسية لعام 2009 ساعة الصفر لتنفيذ العملية بالاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، وهي مواقع "تويتر" و"فايسبوك" و"غوغل"، و"يوتيوب"، وأجهزة الاتصال الخلوي المتطورة، والفضائيات الأجنبية الناطقة بالفارسية، وتم تشكيل مجموعات باسم "تحالف الحركات الشبابية"، وتولت أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية، لا سيما البريطانية، كتابة رسائل وصياغة معلومات مفبركة ونشرها على تلك الشبكات بالتواصل مع مجموعات داخلية، وأدى ذلك إلى تفعيل أحداث الشغب في طهران بذريعة تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية وإجهاض فوز "مير حسين موسوي". لكن مركز التنصت الضخم الذي ينتصب على الجبال المشرفة على شمال طهران، تمكن من اختراق أدوات التواصل الافتراضية تلك، وتعقب الرسائل الواردة التي تبين أن مصدرها خارج إيران وفي دول أوروبية وليس ايرانيين، من الداخل، حيث قامت أجهزة الاستخبارات الإيرانية بعملية منظمة أحبطت فيها هذه العملية الانقلابية بطريقة أسكتت فيها كل الصراخ الأميركي والأوروبي حولما أسموه "الثورة الخضراء"، وتم اعتقال جميع المتورطين في الداخل وإحالتهم إلى المحاكمة حيث اعترفوا بالأدوار التي قامت بها الاستخبارات الأميركية والأوروبية لتنفيذ الانقلاب.
 
ـ قامت أجهزة الإستخبارات الإيرانية بعملية منظمة أحبطت فيها هذه العملية الانقلابية بطريقة أسكتت فيها كل الصراخ الأميركي والأوروبي عنما أسموه "الثورة الخضراء"

لاحقاً وبعد تكشف فصول ما كان مخططاً له ظهر خبراء غربيون عديدون عرضوا لما في جعبتهم وما قامت به وسائل الإعلام الأجنبية من دور أمني وليس إعلامي، كموقع "تويتر" ثالث أكبر موقع للشبكات الاجتماعية، والتي نسب ما حصل إليه وسُمي باسمه "عملية تويتر"، وتبين أنه شكل مصدراً أساسياً لوسائل الإعلام لتقديم معلومات مفترض أنها آتية من إيران قبل أن يتبين أن معظم الرسائل هذه وردت باللغة بالانكليزية وليس بالفارسية، ومصدرها دول معينة وليس إيران، والنقاشات المفتعلة على الموقع مصدرها أميركيون وليس إيرانيين، ووظيفتها بث معلومات ذات طابع معين عما يجري في إيران في إطار تفعيل "الديمقراطية الرقمية".

"فيروس ستاكس نت"

لكن الهجوم الالكتروني الأخطر أعد ليستفيد من البيئة المضطربة التي حصلت خلال "عملية التغيير الناعم" تلك، عندما وجهت الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية ـ بالتزامن مع هذه الأحداث وانشغال القيادة الإيرانية باحتوائها، وتركّز جهدها على الشبكة العنكبوتية لترصد مواقع التواصل وغيرها مما استخدم في التحريض وبث الشائعات ـ فيروس "ستاكس نت" إلى برنامج إيران النووي، بغية تدمير مفاعل نتانز وتخريب أجهزة الطرد المركزي فيه، من خلال إحداث خلل خطير في برامج التشغيل الالكترونية. وقد اعتبر هذا الفيروس الإلكتروني البالغ التطور بمثابة " السلاح الرقمي الأول الذي يحتل أهمية جيوسياسية كبرى ويمكنه أن يغيّر طريقة خوض الحروب، ذلك أنه يمكنه اختراق أكثر الحواسيب أماناً والتي لا تتصل بشبكة الإنترنت، وهو إنجاز كان يُعتبر مستحيلاً سابقاً"، وقد وصف بأنه "أكثر الاعتداءات تطوراً على الإطلاق. ويُعتبر هذا النوع من الاعتداءات على نظام صناعي متطوّر ومعزول عملية غير مألوفة". لكن الإجراءات الاحترازية التي تطبقها الإدارة الإيرانية للبرنامج النووي ساهمت في إحباط الاعتداء واحتواء الخسائر، واعتبر اكتشاف الفيروس انجازاً مهماً يوازي إنجاز تصميمه والذي شارك فيه عباقرة المعلوماتية الأميركيون والاسرائيليون مستفيدين من حصولهم على معلومات تفصيلية عن أنظمة "سيمنز" الألمانية التي تشغل المفاعل النووي الإيراني، ومع ذلك تكمن الخبراء الإيرانيون من صد الاعتداء بجدارة.


لكن ذروة الإنجاز الالكتروني كان في أسر طائرة الاستطلاع الأميركية الأشهر والأخطر "آر. كيو: 170"، التي لديها قدرة مناورة واختفاء عن الرادارات غير متوافرة لنظيراتها في العالم، وإخراجها من المجال الجوي الإيراني واهباطها بأمان إلى موقع إيراني ثم إخفاؤها في سابع طبقات الأرض، كما يقول المثل الشعبي، دون أن يكتشف الأميركيون أن طائرتهم هذه التي قصدت إيران في مهمة سريّة أصبحت تحت سيطرة الجيش السيبري الإيراني، الذي أظهر براعة فائقة في تنفيذ العملية دون أن تتمكن أجهزة التحكم الأميركية من رصد عملية السيطرة، وبالتالي تشغيل المدمرات الذاتية التي تحملها الطائرة، أو تحريك سرب طائرات حربية أميركية على عجل لتدميرها قبل أن يستحوذ عليها الايرانيون، أو حتى في تحديد مكانها بعد أن أسرتها القوات الإيرانية، وأنزلتها في مدينة كاشمار في شرقي إيران التي تقع على بعد حوالي 200 كلم من حدود إيران ـ أفغانستان، ثم نقلتها إلى قاعدة عسكريّة آمنة.

يوم أسود للأميركيين

لا يوجد شيء يصف الإنجاز الإيراني بقدر تلك العبارات التي تطايرت شرراً في "اسرائيل"، وليس في واشنطن فحسب، عندما وصفت ما حصل بأنه "يوم أسود في تاريخ الولايات المتحدة"، لأن الضرر الذي لحق بالولايات المتحدة هائل، فهو وفقاً "لاريه ايغوزي" (موقع اسرائيل ديفنس) "أمر يتعلق بمنظومة سرية متطورة، تجمع فيها تقنيات تملص وقدرات الكتروبصرية وغيرها من أعلى مستويات التقنية، وعلى أحدٍ ما في الولايات المتحدة أن يدفع ثمن هذا الإخفاق، الذي هو بالفعل يومٌ أسود للأميركيين"، حيث أصبح الآن بيد خصومهم الإيرانيين جهاز سرّي أميركي، يمكنهم فك أسراره، وتعطيل نظيره من التقنيات شديدة التعقيد، لا سيما بعد نجاح الكمين الالكتروني الذي أعدّه الإيرانيون للطائرة غير المأهولة السريّة مما يوجه ضربة شديدة لتشكيلات طائرات الهجوم المراوغة التابعة للولايات المتحدة الأميركية، ولتشكيلات الطائرات من دون طيّار الاميركية والإسرائيلية أيضاً. وبحسب موقع "تيك دبكا" الإسرائيلي (12 كانون الاول) فإن عرض الإيرانيين للطائرة السرية بحالة سليمة يُلزم الولايات المتحدة الأميركيّة و"إسرائيل" بتنفيذ تغييرات بعيدة المدى في مخططاتهما من أجل مهاجمة المفاعل النووي الإيراني، حيث إن أقل ما يمكن أن يحصل عليه الإيرانيون هو خارطة الأهداف التي يبحث عنها الأميركيون وحلفاؤهم في إيران لضربها. أما أخطر ما يمكن أن يقوم به الإيرانيون هو "إعادة هندسة" أو "هندسة عكسية" من أجل وضع اليد على التكنولوجيا المتقدّمة التي بُنيت وفقها الطائرة النادرة، وتصنيع طائرات مماثلة وربما بتكنولوجيات أكثر تطوراً، علماً أن لدى طهران إمكانيات للقيام بهذه المهمة.
 ـ أخطر ما يمكن أن يقوم به الايرانيون هو "إعادة هندسة" أو "هندسة عكسية" من أجل وضع اليد على التكنولوجيا المتقدّمة التي بُنيت وفقها الطائرة النادرة

أما الانتكاسة الأخرى ذات البعد السياسي، فهي قرار إدارة أوباما ـ بعد نقاشات معمقة داخل القيادة العسكرية والأمنية والسياسية منذ صباح الرابع من كانون الأول الجاري ـ بعدم القيام بأي عمل عسكري لتدمير الطائرة في حال العثور عليها، (وهو من سابع المستحيلات)، ذلك أن مثل هذه الضربة لو توافرت شروطها الميدانية فإنها ستقود إلى حرب مع إيران ترتعب منها واشنطن، رغم التهويل بها.
طبعاً خبر تخلي إدارة أوباما عن تنفيذ عملية إنقاذ طائرة الـ RQ-170 عبر تدميرها، لو استطاعوا، اعتُبر في "إسرائيل" أنه يؤدي إلى إيقاف الحرب السريّة ضدّ إيران لأشهر طويلة، إلى أن يدرس الأميركيون الأضرار العسكريّة والاستخباراتيّة التي أُلحقت بهم من جرّاء هذه القضية، وعلى الأقل معرفة كيف عرف الإيرانيون أنّ الطائرة التي من دون طيّار تحلق في منطقتهم الجويّة، وكيف أنّهم نجحوا في إسقاطها، أو توجيهها، ولماذا لم يعمل جهاز التدمير الذاتي في الطائرة التي من دون طيّارحيث إنه مصمم ليعمل آليا في ظروف كهذه بالضبط؟
لكن اسرائيل ـ القلقة والهازئة من أميركا في آن واحد ـ أعادت صياغة الأسئلة نفسها بالنسبة لها عندما كشف موقع «Israel deffense» (12/12) أن عدداً من البنى التحتية العامة في "إسرائيل" تعرضت خلال الفترة الأخيرة إلى هجماتٍ "سيبرية" عبر الإنترنت متسائلاً: هل من شن الهجمات دولة ذات إمكانات متطورة أم مجموعة قراصنة إلكترونيين؟ وبحسب "امير بوحبوط" في موقع ولاء الإخباري (13/12)، فإن رئيس شعبة الاتصالات المحوسبة في الجيش الإسرائيلي، اللواء "عوزي موسكوبيتش"، عين أيضاً لجنة تحقيق هدفها تحديد المسؤولين والأسباب عن الفشل الذي أدى إلى انهيار منظومة الانترنت العسكرية في الشهر الأخير، ففي إحدى الحوادث انقطعت منظومة الانترنت الداخلية التابعة للجيش وتسبّبت بتعطيل العمل لفترة طويلة. وفي حادثة أخرى انهارت منظومة البريد الالكتروني ونتيجة ذلك تسبّبت بضرر بالعمل الجاري.
 
ـ اكتشاف الفيروس إنجاز مهم يوازي إنجاز تصميمه والذي شارك فيه عباقرة المعلوماتية الأميركيون والإسرائيليون مستفيدين من حصولهم على معلومات تفصيلية عن أنظمة "سيمنز" الألمانية
وقد لّمح رئيس تحرير موقع "اسرائيل ديفنس"، عامير رابيبورت، إلى احتمال وجود صلة بين ما حصل وبين "حرب سيبرية مندلعة بمنتهى الشدة" بين "إسرائيل" وإيران، مشيراً إلى أن كلاً من الجانبين يعدان العدة للمضي قدماً في هذه الحرب، ففي "إسرائيل" تم إنشاء "هيئة سيبرية" تابعة لرئاسة الوزراء تبلغ موازنتها السنوية عشرات ملايين الدولارات، كذلك وزعت المهام داخل الجيش في هذا الإطار حيث أوكلت إلى شعبة الاستخبارات العسكرية مهام "الهجوم الإلكتروني" وإلى شعبة الاتصالات مهام "الدفاع الإلكتروني"، أما في إيران فقد تم إنشاء "هيئة الدفاع السيبري" التابعة للأركان العامة للقوات المسلحة كما تم تدشين اختصاص الدفاع السيبري في جامعة الإمام الحسين التابعة للحرس الثوري.
ما تقدم يعني أن الإيرانيين يديرون بجدارة الشكل الجديد من الحروب الحديثة وهم على الأقل تمكنوا حتى الآن من إحباط ثلاث هجمات سيبرية استراتيجية كان يمكن لو نجحت أن تلحق أضراراً جسيمة بالقوة الإيرانية، لكن السؤال يتوجه الآن إلى مباشرة إيران بهجمات سيبرية رداً على الاعتداءات عليها، وما يمكن أن تحققه في هذا المضمار الذي يسجل للعقل الإيراني تفوقاً كبيراً له في هذا المضمار، لا سيما وأن البناء الرياضي لنظم المعلوماتية يحمل الإيرانيون براءة اختراعه منذ الخوارزمي.
ـــــــــــــــ
27-كانون الأول-2011
استبيان