المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

شهداءُ الرعيل الأول.. حِنّاءُ نصرٍ لا ينضب


الشهيد السعيد فارس حسن حاوي

فاطمة شعيتو حلاوي

على كرسيّها العتيق أرخت بثقلِ عمرِها، وعلى عصاها الهرمةِ اتكأت بكفيها الجوّادتين اللتين نذرت عطاءاتهما لخدمة رجال الله. فهي التي ما كلّت طيلةَ سنواتٍ من حملِ "زوّادةٍ" مشحوذة بحنوّ وبأسِ الأمهات المجاهدات.. أمهات شهداء المقاومة.

تغوص عينا الحاجة "نايفة" في دنيا الذكريات البعيدة، تلتقطان صوراً لفارسها البطل الذي امتطى صهوة الشهادة المبكرة، تتحدّث عنه وبريقُ الفًخار يُزهو على وجنتيها، فتبثّ كلماتُها نبضاً في زمنٍ ليس يموت. هو زمنُ الرعيل الأوّل، الذي كتبَ سيرة الزمن القادم. زمنُ الانتصاراتِ في أيار وتموز وآب وما يُرى أبعدَ منها!

لم يكن فارس حسن حاوي "ساجد"،  المولود في بلدة جويا في 27 تموز / يوليو 1965، فتىً عادياً. هذا ما قرأته الحاجة نايفة في سيمائه منذ نعومة الأظافر، وهو ما وجده عليه أهله ومن عرفه عن كثب. فقد تجرّع صغيراً حبّ الجهاد والموت العزيز في منزل عائلته التي قدّمت أخيه "يوسف" شهيداً إبان الاجتياح الإسرائيلي الأوّل للبنان عام 1978.



الحاجة نايفة

هكذا، وجدت غرسةُ المقاومة طريقها إلى عقل وقلبِ فارس، وزاد من ثبات جذورها لاحقاً دعوة الإمام الخميني (قده) إلى مقاومة "إسرائيل"، عقب الاجتياح الإسرائيلي الآخر للبنان عام 1982. كان ساجد من أوائل الذين لبّوا نداء الإمام القائد، فالتحق بصفوف المجاهدين في الجنوب عام 1983، حينَ كانت المقاومة تشبّ من أديم أرض عاملة.

اتخذ فارس من بلدة "معركة" الجنوبية مقرّاً لمسيرته  الجهادية. هناك، عُرف بين المقاومين بنظرته العسكرية الثاقبة وقدرته الفائقة على التخطيط والقيادة، وسُمّي "ساجد" لإيمانٍ راسخٍ تغلغل في باطنه وتجلّى ظاهراً بعبادته المخلصة في بيوت الله.

احتلّت معركة من قلبِ فارس متّسعاً فريداً. لقد شكّلت ربوعها نقطة انطلاقٍ وعودةِ بالنسبةِ إليه. منها ينطلق و"كاميرته" لتوثيق عملياتِ المقاومة، وإليها يعودُ مكتنزاً صورَ الانتصارات. فكان في طليعة المجاهدين الذين أرّخوا لهزائم العدو الصهيوني بالصوت والصورة، بعد أن دخلت المقاومة عصر التوثيق.



الشهيد فارس حسن حاوي

ولطالما سارع فارس إلى خوضِ جولاتِ البطولة بقلبٍ عصيّ عنيد. فلمّا صدح نداء الجهادِ في سهل وادي جيلو ذات يوم من العام 1983، كان حاضراً للمشاركة في إحدى العمليات النوعية.

بين وادي جيلو وجويا، كانت المقاومة تخطط لتنفيذ عمليتها بالتزامن مع رصدٍ مُطوّل لحركة دوريات العدو الصهيوني. ولاحت تباشيرُ النصرِ حين تمكّن المجاهدون من الانقضاضِ بسلاحهم على دوريّة مشاةٍ إسرائيلية، فأوقعوا في عدادها خسائرَ فادحة. وقد وثقت كاميرا فارس بالصوتِ والصورة كلّ مراحل العملية، مع ما تخلّلها من عقبات، كمرور راعٍ قربَ الكمين. حينها كان فارس يتولّى عملية الرصد.

لم يغِب طلبُ الشهادة يوماً عن مناجاة فارس، لا سيّما بعد استشهاد رفاق الجهاد علي حرب، رفيق ناصر، ومحمد حجازي "الدحنون"، إلى أن خرق دعاؤه حجبَ السماء في الثاني من شباط / فبراير عام 1985.

في ذلك اليوم، كانت نفسُ فارس تتحضّر للقاءِ محبوبه الأعلى. فقد تمّ اختياره، مع ثلة من المجاهدين، لتنفيذ عملية نوعية في بلدة معركة. هناك، تمكّنت مجموعة المقاومين من تفجير عبوة في دورية إسرائيلية بعد أن كمنت لها، لتنقضّ بعد ذلك عليها. غيرَ أن وصول تعزيزاتٍ سريعة للعدو أسفرت عن فتح النيران وحصول اشتباكاتٍ بين المقاومين وجنود العدو، ما أدى إلى مقتل ضابط صهيوني ذي رتبة عالية.



الشهيد فارس حسن حاوي

ومع اشتداد وطيس المعركة، ارتأى المجاهدون البقاءَ في ساحتها للجهادِ حتى الشهادة، كي لا يقعوا في شباك الأسرِ أحياء. فخرجوا من كمائنهم في مواجهة مباشرة مع العدوّ، وتلقفوا بأجسادهم الطاهرة شظايا حقده حتى ارتفعوا شهداء...

"إمّا النصر وإما الشهادة".. شعارٌ كانت تردّده الحاجة نايفة حينَ يطرقُ بابَ ذاكرتها نبأ استشهاد فارس. فهو الذي لطالما تغنّى بهذه الكلمات حتى صارت جزءاً من وصيّته شهيداً. أمّا هي، فلطالما تغنّت بشهادة عزيزها حتى ارتقت إلى بارئها *، مختصرة بغيابها سنواتٍ طويلة من الشوق والانتظار، مخلّفة حزناً في قلوبِ أولي بأسٍ ما نسَتْهم من الزادِ والدعاء في  تموز عام 2006..

هناك، عندَ بوّابة الخلدِ التقيا، نثرتْ عليه ورودَ الصبا وأطلقت على مسمعه زغاريدَ الوفا، فأمسك بيدها ومشيا معاً نحو الضوء الأزلي.. أمّا هنا، فلا زال فارس ورفاق دربه يوقدون بحنّاء دمائهم مصابيح الحريّة الوردية، يؤججون ضوءها الثائر، ينسجون من نجيعهم رايات الانتصار، يشدّون على عزائم الرجالِ الرجالْ، وينتزعون من قلبِ التاريخ براثنَ الذئاب.. قد شهد الحقّ أنهم أبطال الرعيل الأوّل، وأرّخت المقاومة أنهم صُنّاع الأمجاد في كلّ زمنٍ يعتصم بحبل وصاياهم!

* توفّيت الحاجة نايفة لقيس بتاريخ 19/ 11/ 2011، ودُفن جثمانها في روضة الشهيدين في بيروت، حيث يرقدُ ابنها الشهيد فارس حاوي.
29-تموز-2013

تعليقات الزوار

استبيان