المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رضا الذي "سعى" بين عامل وفلسطين


ذات صيف، قبل 14 عاماً، كان تراب بلدة مليخ الجنوبية على موعد مع الدم الفلسطيني المقاوم. تلك البلدة الوادعة في جنوب لبنان، المستريحة على سفوح جبال إقليم التفاح، كانت قد خلت من أهلها تمامًا. لم يكن الجنوب قد تحرر بعد من الاحتلال الإسرائيلي. كانت خط تماس، بين الصهاينة ورجال حزب الله، وتلك صخورها هناك لا تزال تشهد على المواجهات، التي طالما سقط فيها قتلى وارتفع منها شهداء.


محمد نزال

فتحت تلك الأرض، آنذاك، ذراعيها لتحتضن ثلاثة شبّان من فلسطين. وهم وإن كانوا من جيل الأحفاد إلا أنهم عاهدوا أجدادهم ألا ينسوا فلسطين. لم يكن ممكناً لهم القتال في بلادهم، ولكن قُيّض لهم أن يكونوا ضيوفًا مقاومين في حضرة مرابطين مقاومين. حلوا هناك أهل دار وثغر على جبهة المقاومة الإسلامية، حيث العدو المشترك. بالنسبة إليهم كل ضربة للإسرائيلي، في أي مكان، كانت تعني السير خطوة إضافية نحو فلسطين.

أعطاهم الحزب سلاحه، وألبسهم ثيابه، وجهزهم تمامًا كما يُجهز شبابه. مروا من قرى جباع، مليتا، جرجوع، لويزة فمليخ. هناك حطوا رحالهم وكمنوا. كان لرفاق السلاح، من مجاهدي المقاومة الإسلامية، كمائن أخرى على مقربة منهم. كمين في سفح جبل "أبو ركاب" وآخر عند تلة "عريض الزنار". كانت مواقع "سجد" و"بئر كلاب" وسواها، التي يتحصن خلفها جنود العدو وعملاؤه، تكشف تلك المنطقة. تلك المواقع التي طالما اقتحمها المقاومون، وعشرات غيرها على امتداد قرى جبل عامل، غدت اليوم أطلالاً تحكي، بصمت، بطولات رجال مرّوا بها. لا يزال رضا، أحد المجاهدين المشاركين في تلك الكمائن، يذكر وجوه الشبان الفلسطينيين الثلاثة. كان هو "دليلهم" الذي أوصلهم إلى بلدة مليخ. لم تكن المرة الأولى التي يستقبلون فيها مقاومين فلسطينيين على هذه الجبهة الساخنة. وجود الضيوف الجدد من فلسطين  أضفى على مهمته القتالية وقعًا خاصًا.


ذات يوم، حصل اشتباك في تلك الكمائن، بين رجال الحزب ودورية متقدمة للعدو. احتاج المقاومون إلى دعم ناري إضافي، وكان كمين "فلسطين" هو الأقرب مسافة، فما كان من الشبان الثلاثة إلا أن فتحوا النار على جنود العدو. أصوات الرشاشات الثقيلة التي استخدموها، ودوي قذائف الـ"آر بي جي" التي أطلقوها، ما زالت تدوي في أذني رضا. انتهت المواجهة، لكن الإسرائيلي – كعادته – حين يُخفق في الميدان، يُرسل طائراته لتعيد بعض الاعتبار لمن سلم من جنوده، فنفذت المقاتلات الحربية سلسلة من الغارات على مواقع المواجهات، ومنها البقعة التي كان يوجد فيها المقاتلون الفلسطينيون. استحال المكان غيومًا من الغبار. انتشرت في الأرجاء رائحة البارود الممزوج بالدم. أصيب من أصيب للمقاومة من رجال، إلا أن رضا ظل سليمًا، فراح ينادي الشباب الفلسطينيين عبر الجهاز اللاسلكي، ولكن ما من مجيب. اتصل بهم على الخط السلكي "الداخلي". ما من خط أصلاً، فقد تقطعت الأسلاك بفعل القصف. كانت طائرات الإستطلاع (MK) المعادية ترصد الأرض طولاً وعرضًا. صوت محرّكها يُسهل تحديد مكانها وأحيانًا رؤيتها. لم يستطع رضا الانتظار أكثر. ركض إلى كمين "الأخوة الفلسطينيين"، كما اعتاد لسانه أن يصفهم. ركض في الأرض المحروقة، مع علمه أن الطائرات يمكن أن تراه وتقصفه في أية لحظة، ليصل أخيراً إلى نقطة الكمين. بحث بين ركام الخيمة. تفقد المقاتل الأول فإذا به قد فارق الحياة. الثاني كان لا يزال يتحرّك، إلا أنه شبه غائب عن الوعي. أما الثالث فكان وضعه أفضل ويستطيع الكلام.

 مسح رضا الدم عن وجهه، ثم حمله على ظهره، وانطلق به نحو نقطة آمنة. ليس سهلاً الركض هناك، في تلك الأرض الوعرة، المليئة بالصخور المسننة، فكيف مع حمل على الظهر لمئات الأمتار! فعلها رضا أخيراً. أوصل الشاب بأمان. لحظات قليلة وها هو ينطلق إلى الشابين اللذين تركهما على الأرض. كان قراره أن يحمل ذاك الذي ما زال فيه نفس حياة، على أمل إسعافه، لكن عند وصوله كان الشاب قد ارتفع شهيداً. حمله وركض به، كما فعل مع الأول، ولكن في وسط الطريق راحت تنهال على مقربة منه قذائف العدو. اضطر إلى وضع جثمان الشهيد أرضًا بغية الاحتماء في نقطة قريبة. تموّه تحت شجرة منتظرًا ما يقارب نصف ساعة. توجه نحو الشاب المسجى، حمله على ظهره، وانطلق به مجددًا. أوصله. لم تكن الغارات قد توقفت. سمع دوي انفجار في نقطة مكمن الشبان الفلسطينيين، فانتظر لتهدأ عاصفة الغبار. ثم انطلق إلى هناك. تلك الغارة كانت قد أحالت جثمان الشاب الثالث أشلاء. رأى رضا ما رأى. لم يحر عملاً. أنزل "الساك" العسكري عن ظهره، وراح يضع ما أمكن من الأشلاء فيه، قبل أن يرفعه إلى ظهره وينطلق إلى النقطة عينها، حيث سجّى رضا أحد زميليه، فيما الآخر يغالب جراحه.


يروي رضا اليوم ما حصل معه، قبل سنوات، مستفزًا وجدانه ليجود بتلك الذكريات بكل ما فيها من حنين. يستذكر وجوه أولئك الشبّان الثلاثة، الذين ربما سينسى الكثير مما قاساه، باستثناء ملامح وجوههم. مناسبة الاستذكار ما يُقال عن "ثلم" بين حزب الله وفلسطين. لا يستطيع، ابن المقاومة الإسلامية، اليوم أن يفهم كل ما يقال عن توتر في علاقة بعض الفلسطينيين مع حزب الله. يعجز عن استيعاب ما يردده بعض الجهلة، كما يصفهم، عن خلافات قد "توثر على القضية".
رضا، وأمثاله من المقاومين، الذين ما زالوا أحياء، وربطتهم بفلسطين رابطة الدماء، قاوموا ضحوا، وتعبوا وجُرحوا، وأفنوا زهرة شبابهم على "مذهب فلسطين". فلسطين عندهم هي أولئك الشبان الثلاثة، الذي رووا بدمائهم أرض جنوب لبنان، على درب فلسطين. فلسطين القضية الحق، التي تعلو ولا يُعلى عليها. تلك القضية عند رضا وإخوانه، المرابطين اليوم على الثغور، والموجودين أينما "يجب" أن يكونوا، تبقى أكبر من أي خلاف. لا شيء من الترهات يمكن أن يصمد أمام قدسيتها. شعارهم ما قاله سيدهم (السيد حسن نصرالله) يومًا: "ليس لأحد في هذا العالم حق التخلي عن حبة رمل من فلسطين، ولا حرف واحد من اسم فلسطين، وعاصمتها القدس، عاصمة الأرض وعاصمة السماء".
25-أيلول-2013

تعليقات الزوار

استبيان