المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

أنصاريات6: صلاة الأسير ترعبهم



يومًا بعد يوم، تزداد الضغوط. رفع مستوى التعذيب، واستعمال أساليب قاسية بهدف إجباري على الاعتراف، وكلما ارتفع مستوى التعذيب، كمًا ونوعًا، كان يَمُنّ الله عليّ بصبرٍ وثبات قلَّ نظيرهما، فالمعنويات عالية ومرتفعة،  ولا مكان للانهيار، لا مكان للهزيمة، لا مكان للتردد.
صحيح أنَّني كنت أعاني وضعًا صحيًا مُتردِّيًا، وصحيح أنَّني "قرْصان البرد"(يقرصني البرد)، وصحيح أنّني لم أذُقْ طعم النوم  منذ أن وصلْتُ "الريجي"1، لكن كانت لدي حالة معنوية قوية ومرتفعة تضاهي ارتفاع الجبل الرفيع 2 . ولعل اسْتِمْداد هذه المعنويات كان من الصلاة التي انْتَزَعْتُ حقَّ تأدِيَتِها بالقوة.
مرة كنت جالسًا مُقيَدًا في بَهْو سجن "الريجي" الكبير، يُحيط بي جنديان، مع مجموعة كبيرة من الأسرى. وإذْ بي أسمع صوت الآذان ينْطلِقْ من مسجد كفررمان 3 . نهضت واقفًا دون أنْ أُعْلِم الجنديَيْن، قائلاً لهم: بدي صَلّي 4 !.
كانت هذه الحركة تُعَدّْ اسْتِفْزازية لهم، لِأنَّهُم كانوا يرون إلى أنَّ فيها شيئًا من التَمرد عليهم، إذْ عليك أن تأخذ الإذن منهم قبل أن تقوم من مقامك، وإلّا كيف لِشَخصٍ مُقيد ومْكَتَّف ومُرهق أنْ ينتفض ويقوم بهذه الطريقة، يعني بالدارِجْ: "مِشْ قارينا" 5  .

حركتي هذه، أثارت ضجة قوية في القاعة الكبيرة. تجمَّع الجنود والمحققون والضباط حولي:
- وْلَكْ شو في؟؟ شو القصة؟؟
- فأجبتهم: بدي صلي!!!
- شو بَدَّكْ تْصلي؟؟!! شو وين مْفَكِّر حالك؟؟!!
- ايه... بدي صلي!! 
احتدم النقاش. عشر دقائق بين أخذ ورد، بِتصلي ما بِتْصلي، المهم، توجهت إليهم قائلاً:
- لَيْكوا 6، نحنا عم نقاتلكم كرمال 7 هيدي الصلاة، مستحيل ما صلّي، عجبْكُم أو ما عَجَبْكُمْ بدي صلّي، هذه الصلاة بالنسبة إلينا كذا وكذا... وصرتُ أشرح بما قدرني الله حينها.

ردَّ كبيرهم، بعد أن لمس إصراري على أداء الصلاة: طيب، بتْصلّي إنت وحاطِطْ 7 الكيس برأسك؟
-اي بْصلّي بالكيس.
المهم وبعد جدال، اتفقنا على أن أصلّي مُقيدًا مُكَتفًا مُكَيَّسًا مُكبّلاً. وهكذا كان يأتي وقت الصلاة،  فأقوم وأبدأ صلاتي مُكبّرًا: "الله أكبر". 
"الله أكبر" ليس كَمِثْلِها أي "الله أكبر"، ولكم أنْ تتخيلوا مشهد الرهبة معي.
عندما كنتُ أكبّر كان بهو "الريجي" يسكن تمامًا: "كِبّْ8 الإبرة بتسمع رنتها"، وحده صوتي كان يصدح بذكر الله. الجنود بالقاعة "يِتْبَلْكَموا"9 ، المحققون تخْتفي أصواتهم، الضباط ما عاد يُسمع لهم حس. أما الأسرى فمنصتون يسمعون صلاتي. يعني، تستطيعون القول إنه خلال وقت الصلاة، كان الجو مهيبًا، وكنْتُ أشعر أنّنا نسيطر على السجانين معنويًا بفعل "سحر" الصلاة وتأثيرها.
لاحقًا، وبعد أن انتقلنا إلى معتقل أنصار، أخْبرني الأسرى بأهمية تلك الصلاة ومدى تأثيرها عليهم خلال جلوسهم في بهو الريجي، إذ كانت ترفع معنوياتهم وتقوّي عزيمتهم.

بدأَ غضب المحققين يزْداد مع الوقت. أنا صرت "مْبَلَّدْ"10 عليهم ولم أعدْ أهابهم، وكنت ألمس حنقهم علَيّ خلال جلسات التحقيق.
أذكر خلال إحدى الجلسات، وبعد إنكاري لِتُهْمة، قام ابو ابراهيم بِتَجْميع بَصْقة في فمه، وقام رايِحْ "ناخِعْني"11 ياها بوجهي، فأصابَتْ جبهتي وسالَتْ على عَيْني ووَجْنَتي. عَزَّ علَيّْ الموقف وتأثرْتُ كثيرًا، وقلت له:
- خلَصْ، ما عادْ بدي جاوب على اسئلْتك، اسأل لحالك، وأنا ما رح كفي التحقيق معك، وبرَمِتْ 12 وجهي نحو الحائط.
"خِوِتْ 13 وجنّْ" ابو ابراهيم، و"زلّوا عقلاتو" 14 كيف أنا بقلّوا هيك... وعلا صوته... وبدأَ يخبط  15 على المكتب.
تجمع الجنود والمحققون على صوته، وبدأوا يتكلمون العبرية في ما بينهم. لحظات ويصِل كبيرهم (كانت المرة الأولى التي أراه فيها). صمتوا جميعًا. بدأَ هو الحديث معي عبر مترجم، فشَرحْتُ له موقفي، مُبَيِّنًا له معنى البصقة في ثقافتنا،  وقلت له: إذا بدّو يْكَمِّلْ "تبْزيق وتفْتَفة"، انا مش رح ردْ على أسئلته. وبالفعل، ومنذ تلك الحادثة، انتزعت من اليهود حق "التحقيق بكرامة"، وما عاد ابو ابراهيم يجرؤ على فعلها مرة أخرى!.
محمود نضر



1 مقر لشركة الريجي (شركة التبغ والتنباك في لبنان) اتخذه الصهاينة سجنًا في بلدة كفرمان الجنوبية
2 أحد جبال إقليم التفاح العالية في جنوب لبنان الذي كان يشهد دائمًا مواجهات بين مجاهدي المقاومة والعدو الصهوني.
3 بلدة في جنوب لبنان قرب النبطية.
4 أريدُ الصلاة.
5 غير مبالٍ بنا (لسان حال الجنود).
6 انظروا.
7 واضع.
8 إرمِ.
9 لا يعودون قادرين على الكلام.
10 أي يقابلهم ببلادة.
11 تفلها.
12 أدرتُ وجهي.
13 جُنّ من الغضب.
14 بمعنى فقد عقله.
15 يطرق بيده على المكتب.


22-كانون الأول-2013

تعليقات الزوار

استبيان