المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

غزة تستذكر الحرب ويخنقها الحصار - هاني إبراهيم


تصوير: محمود أبو حمدة

هيا نرسم معًا لوحة عن غزة في حصّة الحياة الصعبة، ما هي الخطوط الأساسية: 3 حدود مع الوطن المحتل ومصْر والبحر، وسلك شائك يلفها على مدار أكثر من 80 كلم، وآلاف الأنفاق المدمرة بينها وبين سيناء وفوقها أسوار حديدية أخرى، ومعابر كأنها للبشر لا تفتح إلا بـ"القطّارة"؟
هذه العناصر لا تكفي، قد نعجز عن إكمال اللوحة، فتأتي الطائرات الإسرائيلية لتعطينا لونًا أحمرَ يحرّك السكون البارد في ليل غزة الحالك، الذي تقضيه المدينة دون كهرباء.


                                                     
ماذا يريدون؟ قليلا من الموت!، إذن، فلتقصف الطائرات البيوت والأراضي الزراعية، ليحترق اللون الأخضر، وتُلطخ الصورة بالأحمر، كما لا أشهى وألذ على قلب (الإسرائيلي)، من أن يكون "الأحمر القاني" من أطفالٍ لا تتجاوز أعمارهم الرابعة.
هي حبال كثيرة تلتف حول عنق غزة، ويصعب تعدادها، لذا عليها أن تدفع ضريبة الاحتلال، بل كيف يمكن لمدينة عربية محاصرة أن تجرؤ على أسر جندي يحمل الجنسية الإسرائيلية- الفرنسية من على ظهر دبابته؟.
على ذلك، شدّدوا الحصار، دمِروا ما تبقى من مطارها المدمّر، امنعوا أية سفينة من الوصول إليها، اقصفوا الأنفاق، قلصوا المعابر معها من خمسة إلى واحد، وهذا الأخير لا تفتحوه إلا بقدر ما يحتاج "المدنيون" إليه كي يبقوا أحياء. هذا ما تفعله (إسرائيل) في الألفية الثالثة.



                                                      
ويكملون: "لنراجع إجراءاتنا القديمة؛ يبدو أنها لم تثمر جيدًا، لذا امنعوا أي مالٍ من الوصول إليها، بل اقصفوا البنوك ومحلات الصرافة، ولو تطلب الأمر دمروا مصانعها وأي وجه للإنتاج، حتى الشجر جرفوه، فمن خلفِه يختفي قنّاصتهم، وفي رواياتهم الدينية سيكون الزيتون عدوّنا".
رغم ذلك، تختفي آثار الجندي، وتعجز أكبر منظومة أمنية في هذا العصر عن الوصول إليه وهو مخبأ في مساحة لا تتجاوز 360 كلم2. أصلًا هذه المساحة لا تكفي سكانه الذين صاروا مليونًا و800 ألف مواطن، أي أكبر كثافة سكانية في العالم، فأين يخفونه؟.
يشعلون حربًا في كانون البارد كي يحرقوا الشتاء. اختاروا السبت، وهو اليوم المعهود لإجازتهم، فيستبعد من كان يحذَرُهم أن يتحرك جيشهم ويحارب في هذا الوقت، كي لا تُنتهك "حرمة السبت".
تقول عجوز معاتبةً مقاومًا يبكي رفاقَه: يا ولدي، هل لمن انتهك حرمة الأنبياء وقتَلهم ألّا ينتهك حرمة السبت، وكان في السبت والإثنين وكل أيام الأسبوع يقتل أطفالنا ويبقر بطون نسائنا؟

                                                     
يرد عليها: "إنه القدر أيها الوطن: أن نُهجر ونُقتل على الأرض التي رحلنا إليها. هم أغلقوا كل المعابر حتى لا نغادر، بل وضعونا أمام خيارين: إما الموت، وإما الموت، فلنمت بشرف حتى نكون شهداءَ مع الأنبياء على جرائمهم".
أسبوع واحد بين ضربات الجو والاجتياح البري الذي أُعطي موعده في السبت التالي للأول، كان كفيلًا بهجرة مئات العائلات مرة أخرى بحثًا عن النجاة، لكن تلك الحرب كسرت نظرية وجود مناطق آمنة في غزة، فأية منطقة كان يُستبعد قصفها وقعت في مرمى النار، كـ"تلّ الهوا" مثالًا.
حتى إنهم كانوا يخترقون موجات البث الإذاعية ويرسلون رسالة تقول: "إلى سكان قطاع غزة، حفاظًا على سلامتكم، ابتعدوا عن الإرهابيين ولا تساعدوهم".
22 يومًا رأت غزة فيها الموت بصور عديدة: قنابل الفوسفور الأبيض الحارقة، وهدم البيوت على أهلها وهم أحياء، ونسف أحياء سكنية بكاملها، وحرق المستشفيات وقتل الأطباء، والإجهاز على الجرحى والأسرى.
لم يكن عتاد مقاومي القطاع في تلك الأيام كثيرًا، لكنهم قاوموا حتى النفس الأخير إلى أن توقّف الاحتلال عن الحرب بعدما تألّم على البر كثيرًا، وأخفق في إيجاد جنديه أو حتى قتله ليرتاح من كلفة إخراجه، ما دعا برفاق السلاح في دمشق وبيروت إلى تجهيز رفيقة الدرب لتنتفض لكرامتها وكرامة العرب مجددًا.

                                                       
غزة كانت على موعد مع حرب أخرى، لكنها بين الاثنتين عاشت فرحة كبرى بعودة أبنائها من الأسرى الذين حُكموا بالمؤبدات إليها، إضافة إلى آخرين أبعدوا من الضفة والقدس، فاحتضنتهم كالأمّ التي اعتادت أن تجبر كسر باقي أخواتها من المدن المحتلة.
هنا، يبدو أن لوحتنا مُلئت بالألوان، وبعضها كان زاهيًا، ولكن (إسرائيل) سئمت رؤية بعض كتل الإسمنت والأبنية تعلو في غزة، بعد جلب احتياجات البناء عبر الأنفاق الأرضية التي مات من أجل حفرها أكثر من 250 شابًا وطفلًا، كي يأتوا إلى مدينتهم بشيء من الحياة.
أصبحت نهاية كل عام موعدا لتذكّر الحرب واستحضار أيامها، وفعلا صدق حدس الأمهات اللائي يقلقن على أبنائهن كل ليلة رباط على الثغور، فجاء مساءٌ آخرُ دامٍ بعد أربع سنوات من الحرب الأولى، واغتيل أحمد الجعبري.

                                                      
أبدعت العقول العسكرية (الإسرائيلية) في ربط خرافاتهم بالموت، فاختاروا لحربهم الأولى اسم "الرصاص المصبوب"، والثانية "عمود السحاب". هم يريدون أن يقولوا إن التوراة تلهمهم قتل الناس تحت مسميات دينية، ولكن هذا ليس ما بشّر به موسى أو عيسى من بعده.
هذه المرة، شمّرت غزة عن سواعدها، فقصفت بـ"فجر 5" عاصمة الاحتلال (تل أبيب)، ووجهت صواريخ أخرى إلى عاصمة فلسطين، القدس.
جُنّ جنون العالم، كيف تفعلون ذلك أيها "المجانين"؟، فتهافت من تهافت منذ اليوم الأول بعد قصف (تل أبيب) لوقف المعركة وإعلان الهدنة، لكن الحرب استمرت 8 أيام حتى فرضت المقاومة شروطها: عودة المزارعين إلى أراضيهم، وإبحار الصيادين أميالًا إضافية، ووقف الاغتيالات والاعتداءات، وفتح المعابر.
(إسرائيل) اتهمت إيران بإرسال هذه الصواريخ إلى المقاومين، لكن الأخيرة لم تؤكد ولم تنف، واكتفت باستنكار العدوان والدعم من أسفل اللوحة، وإن كان هناك من يبتسم لأنه أوصل رسالته إلى الطرف المعنيّ جيدًا.

                                                    
بعد أقل من عام، تُكتشف أنفاق جديدة للمقاومة تصل داخل الأراضي المحتلة، ما يعني أن هناك "معركة أشباح" قد تحدث في أي مواجهة مقبلة، لذا تفكر (تل أبيب) جيدًا قبل أن تهاجم غزة، لكنها تريد أن "تخنقها" قبل الانقضاض عليها، حتى تنال منها وهي منهكة.
جاءت الفرصة من شبه جزيرة سيناء، التي صنعت (إسرائيل) فيها وضعًا أمنيًا صعبًا، فأوجدت المبرر اللازم لحصار غزة عربيًّا، حتى تضمن تحجيم قدرات المقاومة، وتستنزف شعبها ليموت من به مرض، ويخسر من له رزق، ويحرم السفر آلاف المحتاجين.




نهاية هذا العام، أكمل الاحتلال حربه النفسية اللامنتهية على غزة بـ15 غارة على طول القطاع وعرضه، فاستشهدت طفلة وأصيب عشرات ودُمرت ممتلكات. كل هذا لتعاود (إسرائيل) تذكير من يحتضن المقاومة أن فاتورة الاحتلال لا تزال مستمرة، وأن عليهم دفعها من دمائهم ومنازلهم وأقوات يومهم، لكن المقاومة على الأرض تقول إنها جاهزة، وأقوى من قبل.
هل تكفي الحروب السابقة لنتمّ اللوحة؟، لو كان ناجي العلي حيًّا إلى هذا اليوم لجعل من شكل غزة، الذي يشبه خريطة فلسطين، مرْكبًا لحنظلة حتى يبحر به ويعود إلى البلاد المحتلة، وطنه الأكبر والأول.

                                                                
كُتبت هذه الحروف بالاعتماد على بطارية موصولة بجهاز UPS يؤمن طاقة كهربائية بديلة. تلك إحدى الوسائل التي ابتكرها الغَزِّيّون ليجدوا قليلًا من الطاقة في التواصل مع العالم وقضاء احتياجات الحياة، بعد توقف محطة توليد الكهرباء عن العمل، وانقطاع أنواع الوقود التي يمكن الاستفادة منها لتشغيل المولدات، أو حتى للتنقل وللمواصلات العامة.
18-كانون الثاني-2014

تعليقات الزوار

استبيان