المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رحم من تراب1 – مهدي الطقش



ماهر ماهر.. يا ماهر ماهر.. فلاح..  وضعت كوب الشاي من يدي، التقطت الجهاز وأجبت: من ينادي ماهر؟ ماهر يتكلم.
ماهر استعد، عندك "مشوار" (مهمة). حسنًا، أنا مستعد.
على تلك الشرفة احتسى الكثيرون قبلي الشاي المغلي قبل مسيرهم إلى مهماتهم القتالية. انتظروا طويلًا في هذا المكان قبل أن يُؤذن لهم بالالتحاق. جاء دوري اليوم. حزمت أمتعتي بسرعة ونزلت عبر السلم الحجري، لأركب السيارة التي ستقلني. كنت ثاني اثنين، جلسنا في الخلف.
كان السائق هو نفسه المسؤول عن المنطقة التي سنتوجه إليها. نظر إليّ عبر المرآة قائلًا: ماهر، سوف نتجه إلى مربض صواريخ، وأنت ستكون المسؤول عن هذه النقطة. والأخ غياث معك سيساعدك على أداء مهمتك. النقطة التي ستشغلونها سقط لنا فيها جريح وانسحب منها آخر بطلب منا، لأنه بات يعاني من مشكلة في أذنيه نتيجة القصف.



انتابتني رهبة الإقبال على الخط، وفي نفسي سعادة لا توصف في الوقت عينه.
سارت السيارة مسرعة على الطرق الترابية، وما هي إلا دقائق حتى وصلنا نقطة الترجل. أخذنا ما نحتاجه من السيارة و جدينا السير نحو المربض.
كان المربض عبارة عن منصة إطلاق صواريخ مفردة، ذي فوهة واحدة. وهناك مكان مهيأ، بعيد قليلًا عنها، للاستراحة والاستعداد. ومكان آخر لتجهيز الصواريخ. ومكان النوم لم يكن سوى أكياس النوم (الفرشة العسكرية). ليس ثمة أشجار كبيرة في المكان. البلان وبعض شجر البلوط يسيطران على الأرض. وفي الجو صوت طائرات استطلاع. وضعنا أمتعتنا، فتحنا جهاز إرسالنا، ننتظر الأوامر بالإطلاق. كانت مؤونتنا تكفي ليوم واحد. إذ علينا الذهاب يوميًا إلى مكان متفق عليه لاستلام المؤن.
شارف تموز على الانتهاء، وغدًا يطل آب؛ أعاننا الله على لظى شمسه الحارقة، وبرد ليله القارس.
مضت أيام علينا في مربض القلعة. كنا نتلقى الإيعاز بالرمي فنرمي. التحفنا من الليل نجومه، واسمعنا عتمته تمتمات شفاهنا بالابتهال والدعاء والصلاة عند شجيرات البلوط. وفي النهار كنا نُصْلِي أعداءنا حرَّ الصواريخ.
ما أثار اهتمامي في تلك الفترة أنه كنا كلما رمينا صاروخًا  أواثنين، كان العدو يرمينا بقذائف من عيار 155 ملم.
 وجاء السادس من آب، نهضنا صباحًا. اشتغلنا في تنظيف صواريخنا المشحمة بالمازوت. ووقت الظهر صلينا وقررنا الاستراحة، منتظرين أوامر الإطلاق. كنا نُحَمّل المنصة عادة صاروخًا جاهزًا للإطلاق، ولكنه غير مُذَخّر، فمتى تلقينا التكليف، نذخرْه ثم نرمِه.



ما إن استلقينا قليلًا بعد الصلاة، حتى نادى المنادي: أعطني 6 على 8. انتعلت حذائي بسرعة، وطلبت من مساعدي تجهيز صاروخ آخر، ريثما أذهب وأرمي الأول من على المنصة. تركت خلفي كل أمتعتي حتى محفظتي وسلاحي. "يا أبا عبد الله"، صرخت وانطلق الصاروخ.
غياث، ضع صاعقًا في الصاروخ ريثما أعيد ربط الأسلاك الكهربائية. سمعنا صوت طائرة استطلاع فوقنا تمامًا. كان التكليف أن نحتمي عند سماعها. هرعنا إلى جب بلان قريب. ونزلت قذيفة انشطارية في مكان استراحتنا. لم تنفجر على علو، بل في الأرض، وتطايرت شظاياها في المكان.
ناداني مسؤول المنطقة: عليك تغيير مكانك بسرعة. وبدأت القذائف تنهمر.



كان علينا إيجاد مأوى أكثر أمنًا من الشجيرات. فكلها دقائق وستحترق منطقة المربض. لقد فقدنا كل شيء. الأمتعة والأسلحة الخفيفة. لم يعد بحوزتنا سوى جهاز إرسال. وبدأت القذائف تقترب من المربض المجاور لطريق ترابية.، حيث يقع أسفلها منحدر، وعلى خط واحد من مكان الاستراحة والمربض كان هناك غار صغيرة، أو على الأرجح هي وُجَارُ ثعلب، حفره الأخوة للطوارئ، لكنهم لم يكملوا العمل فيه قبل أن تباغتهم الحرب. كان يتسع فقط لشخصين، فهو بعمق مترين وبعرض متر، على شكل حرف L. قررنا أن نلجأ إليه. أسرعنا نحوه. دخلنا على ركبنا، فلستَ تستطيع الوقوف فيه. أدخلت مساعدي إلى الداخل واخترت بدوري الباب.
كان همي مكان تخزين الصواريخ. لم أرد أن تتأذى. أخرجتُ رأسي قليلًا من الغار، أردت التأكد من عدم وجود طيران الاستطلاع.
ليس هناك طائرة، غياث اتبعني.
خرجنا إلى حيث الصواريخ ففاجأني غياث: انظر فوقك يا ماهر: إنها طائرة.
عدنا إلى الغار، لا شك أنهم كشفونا.




قلت لمساعدي ممازحًا: لماذا لا يأتي الطيران الحربي ويمسح الأرض ويريحنا طالما أننا كُشفنا؟
لم أكمل كلماتي حتى طرنا داخل الغار. جدرانه الضيقة تشهد كيف كنا نلتصق به لمرات عديدة بوجوهنا وكامل أجسادنا، ثم نبتعد، ليس كثيرًا، إذ لا مجال للابتعاد. صرنا نموج مع الغار. لم ندرك ما الذي كان يحصل. صفير بعيد ثم ضغط داخل الغار وغبار كثيف أسود ملأ المكان. لم نكن نسمع صوت انفجار، فقد كنا داخل الانفجار نفسه. لم نعد نرى من سواد الغبار وكثافته، تألمنا من ضغط أذنينا. أخذنا نضع أصابعنا فيها لكثرة الطنين الذي انتابها. غارة أخرى: تأخذنا يمينًا ويسارًا داخل الغار. الغارة الثالثة: ابتلعنا التراب والدخان والحصى. امتلأ الغار ترابًا. وضاق بنا، لم نعد نتنشق الهواء. كنا نرتمي من جانب لآخر، كأنما نحن عجينة بيد خباز يقلبها ليصنع منها رغيفًا.
20-كانون الثاني-2014

تعليقات الزوار

استبيان