المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رحم من تراب2 – مهدي الطقش





سكن الجو، تفحصنا أنفسنا. نحن بخير. ماذا تُرانا نفعل؟ أخذت حجارة من الأرض وبدأنا نتسلى بها في لعبة تسمى "الزّقّط". ما هي إلا برهة وعاد الطيران من جديد. إنها الغارة الرابعة على التوالي تفصلها دقائق عن الثالثة. كانت الغارات تنزل على المربض خلفنا. في الغارة الرابعة دوى انفجار هائل قياسًا بأسلافه.



 أُقفل باب الغار واسود المكان في الداخل. لم تكن لتشعر بارتمائك يمينًا ويسارًا، والتصاقك لمرات عدة بجدران الغار، وأنت تأكل الدخان والحصى الذي كان يقفز من على الأرض قفزًا. لم نكن نتنفس. كنا فقط نشعر بدخول ملايين الحبيبات إلى مجرى تنفسنا. كأنما استحال الهواء ترابًا. قرأنا الفاتحة على أرواحنا. عانقنا بعضنا.



 أخرجت من جيبي ولاعة ذات مصباح في أسفلها. أضأته وإذا بنا شاحبين رماديين وحبيبات التراب تتطاير في فضاء الغار. تفحصنا أنفسنا من جديد، كان غياث لا يرى فتبين أن نظارته ممتلئة ترابًا. نظفها قليلًا. وعلى الضوء الأزرق للولاعة تعاهدنا أن نذهب معًا إلى الشهادة، فلا يسبق أحدنا الآخر.
ثم بدأت بقراءة لطمية لطالما أحببتها: طلائع الولاء تضج بالبكاء، تندب نجل المصطفى، تندب نجل المصطفى...



كنت قد أطفأت جهاز الإرسال، إذ إن الإخوة في بداية الغارات كانوا ينادوننا، وكلما أجبناهم يجيبنا المزيد من الغارات. أصبحنا وحيدين في قبرنا. تذكرت والدتي التي أوصتني أن أدعو الله وأستعين بعلي بن أبي طالب عند الشدائد. شعرت أنني في أمس الحاجة إليه. قلت له: نحن في حماك يا علي. خفت قليلًا. لكنني شعرت أيضًا بأنني -- عما قريب - سألتحق بركب علي والحسين، وأرى رسول الله وابنته فاطمة.
ضاق التنفس، وهمدت نفوسنا، سنقبل على الله بعد قليل. ساد الصمت المكان سوى من بسملة وتسبيح. تفلنا الوحل والتراب. وسعلنا كثيرًا عن كل عمرنا. أخرجت من جيبي لبانًا لنطيّب به أفواهنا من طعم التراب. كانت بطعم النعناع. استسلمنا للموت المحتم، لم تأخذنا بنات أفكارنا إلا إلى أمر واحد: ما الذي سنبصره بعد شهادتنا؟



ودعنا بعضنا ثانية، ونذرت في نفسي نذرًا لصاحب الزمان، فإن بقيت حيًا سأوفيه. وفي العناق الأخير جاءت غارة خامسة، وفتحت باب المغارة.
إنها فرصتنا بالخروج. سمعنا صوت سيارة. قررنا الخروج لملاقاة مصدر الصوت، فإذا بها سيارة مرسيدس وفيها شيخ طاعن في السن، ما إن رآنا حتى أعطى السيارة دفعًا كأنما يفر من الأسد. نظرنا إلى بعضنا وضحكنا. فكنا كالخارج من القبر، يغشانا التراب من فوقنا ومن تحتنا. كنا شعث الشعر، ممزقي الثياب، تعلونا مظاهر الموتى. بيضًا كما كلس الغار.



 مرت السيارة واختفت خلف منعطف، بالتزامن مع قذيفة سقطت إثرها. عدنا إلى الغار.
جددت نذري. نادوني على الجهاز. أسمعتهم صوتي. فقال المنادي: اذهب إلى حيث نعطيك الطعام والشراب. فهمت المغزى. خرجنا من الغار، مسرعين نهفو على طريق السيارة، التي غارت واختفت. التقينا بها وهي تشتعل بصاحبها، بعد أن أكلت النيران منها مأكلًا.
ثم بدأت قذائف من عيار 155 ملم تنهمر على المكان. لم نأبه. كنا نطير كلما سقطت واحدة قربنا. وصلنا، فأبلغت عن مكاننا الجديد. فجاء الجواب: ما الذي تفعله عندك، اهرب. تبين لاحقًا أن المنادي كان يعطي إحداثيات لمجموعة أخرى غيرنا.



أكملنا هروبنا إلى شجرة كبيرة والتصقنا بجذعها. اتصلت عبر الجهاز وأعطيت علامة مكاننا. بعد أقل من ساعة جاءت سيارة يقودها فلاح من جديد. ركبنا وجلسنا على عبوات تلفزيونية، كادت تنفجر لكثرة ما اهتزت بنا أثناء طريق العودة.
وصلنا نقطة الأمان. كان الإخوة يعزون بعضهم بنا، ويقرؤون القرآن. وما إن رأونا أشرقت وجوههم وطاروا فرحًا بنا.



خرجنا من مكان دُمّر فيه كل شيء، حتى تغيرت معالمه من الأصل. أتت الغارات على كل شيء، وكان الغار يتوسط مكان سقوط كل تلك الصواريخ من الطائرات الحربية.
مررت أمام المرآة ضحكت حتى شبعت، فقد غيرت الغارات ملامحي حتى بتُ كأنني خارج من رحم التراب.
30-كانون الثاني-2014

تعليقات الزوار

استبيان