المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رائحة القصعين1: أول العبور - هادي قبيسي




... مرت سنوات ثلاث قضيتها مع مجموعة الاستطلاع في محور جزين مثقلة سريعة وصاخبة، وكان كل مشوار نذهبه نجد في العودة منه صعوبة، لأننا كنا نمضي إلى الأحراش قبيل الفجر فنصل مع طلوعه، أما العودة فكانت تبدأ دومًا عند المساء، وفي بعض من الأحيان، كنا نشعر بالضياع حين نعود، لأننا في الذهاب لم نحفظ الطريق جيدًا.
كان أبو صالح من الذين أحببتهم حبًا شديدًا، وكذلك أبو الفضل وتيسير، وحيدر أول من خطا بي نحو تلك الجبال، والذي استشهد لاحقًا. كانوا أكثر من أصدقاء، وكان الجو وديًا جدًا، فكنت أشتاق إليهم أيام إجازتي، وإلى مسيرنا الليلي فوق حقول القمح، وتسلق جبال جزين العالية المعانقة للسماء، والتحاف الأرض ببلانها وقندولها والحصى، والسير وسط الثلوج والرياح... لأنهم كانوا هناك يقاتلون، قد يعودون وقد لا يعودون.
بعد إلحاح كبير على قيادة المجموعة، سُمح لي أخيرًا، أن أتجاوز خطوط التماس وأتوغل قليلًا داخل الحزام الأمني. اختلط في نفسي الشعور بالرهبة والشعور بروح المغامرة، حينما اتصل تيسير وقال:" لقد فُرِجَت، ستشارك في دورية إلى تلة الصنوبر". سهّل انخراطي في هذه المهمة معرفتي بالمنطقة وطبيعتها، وقلة العاملين في مجموعة الاستطلاع، إذ كان البعض يستصعب العمل هناك، بسبب وعورة السبل الجبلية وطول مسافات المسير على الأقدام، نظرًا إلى اتساع عرض الجبهة. سألت أبو صالح :" كم تتطلب تلة الصنوبر من السير؟"، قال :" ليس بالكثير، ست ساعات غير متواصلة!". هه، إن أطول مسير لي هو ساعة ونصف، ست ساعات؟ هل سأصل أم سينهكني التعب وسط الطريق وقد خنقني اللهاث؟ لا، سأحاول بكل جهدي، سأثبت أنني جدير بالمهمات الصعبة. نعم سأثبت ذلك. لم أزل في مكاني لسنوات ثلاث خلت، لا، لن أبقى على هذه الحال.
كنت أحب في ذلك العمر أن أقترب من الصورة المثال التي ارتسمت للمقاتلين على خطوط التماس، فهم أبطال شعبنا الطامحون إلى الشهادة، لقد كانوا في مخيلتنا أشبه بالقديسين، إلا أن هذه الصورة العذبة ما برحت أن بدلت زهورها الجميلة بأشواك الجنوب القاسية، وبدت المصاعب الجمة.
ابتعدت بنا السيارة شيئًا فشيئًا عن بيوت "كفرملكي" حيث كان مركزنا، وراحت تقطع الطريق التي تطل من بين التلال نحو الغرب، حيث دنت تباريح الأصيل البنفسجية الغريقة، وبدت الغيوم ذائبة الجمر. تحت الطريق أبصرتُ الجلول الزراعية مغروسة بأشجار الليمون التي فاح عطرها مع هبوب نسيم المساء. توجهنا إلى خراج البلدة نحو مخزن السلاح والعتاد، كي نبدل ملابسنا المدنية ونأخذ سلاحنا وذخيرتنا والتموين. خلال دقائق، توقفت السيارة بإزاء منزل قديم مهجور.
 دخلت المنزل الخاوي الذي سبقني إليه كثيرون. كان النور خافتًا. في إحدى الغرف، رُصفت خزائن حديدية إلى جانب بعضها البعض، وافترشت الأرض أزواجٌ من الأحذية العسكرية الطويلة رُبطت ببعضها. في إحدى الزوايا كان ثمة أكياس بلاستيكية ضخمة امتلأت بالملابس العسكرية، من كل شكل ولون. وفي الغرفة الأخرى تكدست صناديق الأطعمة المعلبة، وملئت خزانة حديدية بأنواع من السكاكر وعلب العصير.
بدأنا نستعد. كان أبو صالح يضع المعلبات في حقائب الظهر العسكرية، وهي مخيطة من قماش سميك وذات ظهر حديدي مغطى بقطع من الإسفنج، فيما رحت أهيِّئ قطعتي كلاشنكوف، أتفقد "الأمّان" فيهما، ومقدار الرصاص في الأمشاط، ومعي كتب كانت ترافقني دائمًا: مصحف شريف وكتاب أدعية وآخر للمطالعة. تلك كانت لذتي الأخرى بعد العمل الجهادي. وكان بعض الشباب يقولون لي ممازحين: سوف تصبح شيخًا يومًا ما.
 إرتدينا بذلات عسكرية تفوح منها رائحة الرطوبة التي تسود المكان. كانت بقياس كبير جدًا بالنسبة إلي. خضراء اللون. مرقطة بالبني والأسود على هيئة أوراق الشجر. لففت جعبة الذخائر على خصري، وحملت حقيبة الظهر على كتفي وأسندتها بيدي، وتناولت البندقية باليد الأخرى، وكذلك فعل أبو صالح.كان الحمل ثقيلًا، إلا أن روح المغامرة والتضحية التي تعتمل في النفس، كانت تنسي المرء أي شيء في تلك اللحظات.
ركبنا السيارة. أخذت تهبط بنا طريقًا بين التلال، ومع تقدمنا نزولًا، اقتربت الأشجار شيئًا فشيئًا من الطريق التي بدأت تضيق تدريجًا، وقبل الوصول إلى غمرة الوادي المظلم، أطفأ تيسير الأضواء، وشرع يقود السيارة بهدوء، ناظرًا من من نافذتها كي لا يصطدم بالجذوع القريبة. كنا نسمع الحصى تصطك تحت العجلات. ثم توقفت السيارة، فساد الصمت ثقيلًا، زاد من هيبته الظلام الذي اكتسح تلك البقعة الدانية بين الجبال. لم يكن من صوت سوى "زيز الليل"، كما نسميها في الجنوب. تلك الحشرة التي تظل "تئن" خلال الليل وتعيش في البراري بأعداد غفيرة. ويخرق السكون أيضًا تلك النسمات التي تتهادى بين أغصان الليمون.
يتبع.. نحو مواقع العدو
25-شباط-2014

تعليقات الزوار

استبيان