المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رائحة القصعين2: نحو مواقع العدو – هادي قبيسي




قال تيسير : هيا، اتكلوا على الله.
حملنا الحقائب الظهرية وأسلحتنا والجعب ونزلنا من السيارة،. رفعنا أيدينا إشارة التحية، ثم شرعنا في  المسير تحت أجنحة الليل. عاد تيسير إلى كفرملكي. عندما ابتعدت سيارته كنا قد بدأنا نُصَعِّد التلة المحاذية، وكانت أعيننا التي اعتادت العتمة تمكننا من تلمس طريق شقتها أقدام المجاهدين بين الأشواك والأزهار والشجر الملتف. التفينا بين الجلول التي حُرِثَت أرضها حديثًا، فانغرزت أقدامنا في أثلامها، ومررنا تحت نوافذ قرية قابعة على التلة، غائرةً أضواؤها الكئيبة في الظلام.

كم سنقترب يا ترى من المواقع اللحدية؟ ومتى سنصل إلى النقطة؟ هل سنصادف كمينًا خلال المسير؟ إحتشدت هذه التساؤلات عندما كانت أغصان الزيتون تلامس رأسي ونحن نبتعد عن المنازل. عندما وصلنا الجهة الشمالية للقرية، هبَّ الهواء باردًا نقيًا يمسح جبين التلال التي بدت ثملة بالشجيرات. أنزلنا حمالة البنادق عن أكتافنا، وحملناها بالأيدي وبدأنا ننزل الوادي الذي بدا شديد الغور، بحيث لم نر قعره، وازدادت وعورة الطريق التي لم تقربها أيدي الفلاحين، ولا أقدام الصيادين لشدة انحدارها، فغدت تدلف بانحناء شديد حتى تتصل بطريق معبد، يقطع التلة في وسطها. كان الحذاء العسكري، الذي انتعله قبلي عدد لا يحصى من المقاتلين، قد غدا كعبه قاسيًا وزلقًا. وكان الظلام المخيِّم يبطِّئ مشينا. وبعد سير طويل متكئين على أعقاب البنادق، ومحطات كثيرة للاستراحة، وصلنا الطريق المعبد. انتحينا جانبًا نتفقد المنطقة. كانت الطريق محاطةً بنباتات "الطَيُّون"، وإلى الأمام كانت التلال تمتد بلا نهاية. كانت تبدو تحت الظلام الدامس، كتلة واحدة مترامية الأطراف. سمعنا هدير محرك سيارة، ثم برقت أضواؤها من بعيد.
أبو صالح : إنتبه يا علي، هذه طريق تمر عليها دوريات جنود لحد.
وثبنا بسرعة إلى قناة مياه جافة بمحاذاة الطريق، حتى مرت السيارة التي لم تدل أيما إشارة على أنها عسكرية.
- هيا يا علي، لقد ابتعدت السيارة.
نهض مهرولًا أمامي فتبعته، ثم قفز جانبًا. كان هدير سيارة أخرى يقترب، فقفزت خلفه حتى مرت أضواؤها التي اكتسحت الظلام. بعد هنيهة، جدينا السير حتى دلفنا نحو طريق قدم تمتد نحو عمق الوادي، وأبصرت السفح وقد افترشت كثبانه الصغيرة أعشاب القصعين والطيون والصعتر، وبدأنا ننزل بتؤدة، فالطريق ما تزال وعرة، وشدة الظلام تزيد في الحذر. بعد نصف ساعة من التزحلق على طريق بالكاد تتسع لقدمين، وصلنا طريقًا ترابيًا واسعًا ارتكست على أطرافه أشجار الحور والإجاص، ووسط العتمة القاتمة في ظل غياب القمر، كان خرير النهر القريب يصيخ بالخيال، كأنه تهطال المطر، وخلف ذلك كنت تشعر بالصمت يلف الأرجاء بوقار.
شربنا الماء من النهر، وجلسنا قليلًا ريثما نعاود الانطلاق. نزعت حذائي لأرى ما يضايقني في قعره، فإذا هي قطعة معدنية توضع لتثبيت الكعب برزت من مكانها وراحت تحك قدمي. نزعتها، ثم انتعلت الحذاء مجددًا.
وسط النسائم الندية المنبعثة من مجرى النهر، وعبق الأرض الرطبة، كانت رائحة القصعين قد استباحت الوادي بحيث تملأ أنف المار بتلك المنطقة البكر، بفوح عطرها. وكانت الريح قد صمتت، وأخلت الجو للنهر ليسترسل في حديثه الليلي. تهدلت أوراق الحور الطويلة اليابسة مع الأنسام، لتلاقي المياه المنسابة في خشوع. وكانت التلال المرتفعة تحيط بتلك الوهدة من كل الجهات.
أبو صالح : سنقطع هذا النهر على ضوء بطارية يد، فالتقاء أشجار الضفتين قد أغرق مجرى النهر في ظلام دامس.
سمعت جلبة وسط الأشجار، فجهزت بندقيتي، ووضعت يدي على الزناد.
أبو صالح : هذا خنزير، إنه صوت خنزير.
علقت بندقيتي على كتفي، ثم جلست إلى صخرة بجانب الماء أملأ القُرَبَ. غمست يدي واغترفت غرفة، فإذا المياه عذبة صافية، كأنقى ما يكون.
مشينا بمحاذاة النهر الذي تلاقت وتشابكت فوقه أغصان الأشجار المصفوفة على جانبيه لترسم مغارة طبيعية الجدران، حتى أن القابعين في مواقعهم على قمم التلال المجاورة لا يستطيعون رؤية ضوء بطارية يد وسط الظلام. نباتات العلِّيق البري ذات الأغصان الشبيهة بالحبال، كانت تلتف على الأشجار تصل بعضها ببعض وتلامس الأرض، فكنا نقطعها كلما علقت أشواكها القاسية بأقدامنا.
 قال أبو صالح :
- علينا المكوث إلى جانب النهر حتى الصباح.
ثم أخذ يجول ببطاريته باحثًا عن علامة تقودنا إلى مكان مبيتنا تلك الليلة، وهو عبارة عن أحجار عدة، رُصفت فوق بعضها بإزاء شجرة حور كبيرة. سرنا على أطراف القناة الممتدة بمحاذاة المجرى، وبعد بضع خطوات تائهة أدرك أبو صالح أننا أضعنا العلامة، فقفلنا عائدين إلى الموضع الذي دلفنا منه، إلى مجرى النهر علنا نعيد الكرة فنعثر على العلامة. بحثنا حوالي الثلث من الساعة دون جدوى. كان الليل قد انتصف، وأحذيتنا مملوءة بالمياه تثقل خطانا، وكانت أربطة حقائب الظهر تحز كتفاي تحت ثقلها.
بحثنا عن مكان للمبيت، أي مكان، فعثرنا على بقعة صغيرة خلف شجرة حور ضخمة، غابت عنها حبال العليق البري. وهناك أعطيت لأنفاسي فرصة للهدوء، ألقيت حقيبة الظهر إلى الأرض وضعت البندقية بجانبها، وجلست أرتاح.
-سوف ننام هنا. قال.
-حسنا، إنها بقعة جيدة.
-هل التفتَّ إلى خرير النهر وحفيف الشجر؟
-إنها منطقة جميلة بالفعل!
يتبع...
08-آذار-2014

تعليقات الزوار

استبيان