المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

من يرسم صورة الموت - لنا العزير



تحمل الحروب للقرى أمجادًا مغمسة بالفقد، حتى يكاد يُعرف بعضها بنسبته إلى الشهداء .
تبذل قرانا المنفية من خارطة الاهتمام الرسمي، بمختلف جوانبه، عنصر قوّتها الأول وهم شبانها. وفي جولة عادية بعيدة عن حفلات الرعاية والإعلام، يُمكن لأي فرد أن يخطّ أطروحات حقوقية تتحدث عن سياسة الإجحاف والعقاب الحكومية بحق هذه القرى، إذا ما قورنت بعاصمة البلاد لسياحة القادم من بلاد النفط والرفاهية .
منذ الغرسة الأولى لنبتتها، تتكئ الأم على عاتق ولدها ليعينها على لملمة الغيث فوق فتات العيش، وبعضٌ ممن تطاول مستقبله على سور التقطيع الجيوسياسي المفروض، أردف شقاء يومه قحطًا ، ليمنح ولده شهادة قد تُقدّمه لبلده بدرجة مواطن مستثنىً من العنصرية الداخلية.
وتعود الحروب، ليُخبئ المتآمرون أبناءهم في قصور نهبهم خارج الحدود، وتُودع أمهاتنا أبناءهن اليَمَّ، وتعقد أفئدتها إلى السماء، ليرجعوا إليهن أعزاء.
ومع كل عود  يُزفّ به أبطالًا وشهداء، تجتمع أكفهن التعبة، حول زرعهن، يكفكفن انجراف القلب بسلاسل يقين:" هو قضاء الله، وما أحسنه أن يكون شهادة" .
كُثرٌ أولئك الذين سيتجاذبون فكرة تمني الأم لولدها الشهادة، وسيراه البعض ممارسة للكيد التعصبي. وللبعض تعليلات تبدأ بالفكر الشمولي، ولا تنتهي بسياسة "بلع القهر".
لكن أحدًا منهم لم يسمع، أو ربما لم يعقل فكرة امتياز القدر. أن تخضع للقدر بالرحيل، مع أمنية بالارتحال بأكثر السبل فلاحًا .
" تمنيت لو أنه استشهد، كان أفضل من أن يمضي هكذا، متعلعلًا أمام عينيّ!".
هي أم المجاهد أحمد (اسم مستعار)، الذي توفي بعد عودته من مشاركته الأخيرة في معارك القصير.
تقول الوالدة: " آخر مرة كان رايح على القصير ، وصل على الضيعة خبر الشهيد ياسين ، أمسكت الشنطة من يد أحمد وقلتله يا أمي ولله خايفة عليك ، قلي: يا أمي شو بكي ؟ شو أنا أحسن من ياسين والشباب ؟ انتِ ادعيلنا بالنصر وما تخافي ، العمر واحد".
مضى أحمد، وفي جعبته من قلق والدته ما في جعبات رفاق دربه. ذاك القلق الذي يجافي الفقد بكله، فكرة أن يخطو حبيبًا لنا، كمن يستنفذ ما تبقى له من مسافات فوق هذه الأرض. الخوف من " انشلاع الإبن من قلب أمه" بالرحيل الأخير .
"  بيبقى الصبي لأمه سند ، هيك هي بتحس ، بس الموت محتوم، من لما بنخلق نحن موعودين بالموت، ويمكن لو أحمد استشهد كان أهون عليي ما يموت هيك".
.... " علي عبّارة " كنية لشاب من هذه القرية، وهو كما يسمونه أهل القرية "عالبركة "، أي أنه لا يعقل  تصرفاته، وهو في العقد الرابع من عمره تقريبًا ، وأخيرًا كان يجول في زواريب القرية يجمع النفايات، وله، ممن تقع عليه عينه، نصيب من " الحسنة ". يومها سألني علي عن أحمد إذا كان رجع، قلت له: إنه رجع بخير والحمد لله، وراح يلعب "فوتبول". لأن أحمد كان ينتبه إليه، ويحدثه ويسايره"، تقول أم أحمد. لم يحالف الحظ علي هذه المرة ليلتقي أحمد في بيته، لكن لقاءه المفاجئ به، وهو يجر عربته الحديدية، فيما أحمد على دراجته النارية، عائد إلى منزله، حيث" رتبت له ثيابه ليستحم"، كان اصطدامًا مروّعًا، أدخل أحمد في غيبوبة عشرين يومًا، وكان نصيب علي منها كسرًا في قدمه. "سبحان الله النصيب كيف، اجا من القصير بخير، وكانت منيته هون قدام البيت" .
رحل أحمد، بعد انقضاء اليوم العشرين من معاناته مع كسوره، يحمل في رحلته هذه المرة ذكرياته عن البطولة، والإنسانية، ورحلة  نثرتها الريح قبل أن تكتمل، وفيها دمعة الفقد تجرح وجنة أمه، وحرقة تُرَدِّدُها "هو كان كثير مؤمن، وأخلاقه منيحة، وعمله صالح، بس يا  ليته استشهد، كانت خاتمته حتكون أحسن". تساندها جارتها: "نحن ما بنتمنى ولادنا يموتوا، بس الموت حق، وما دام لا بد منه، هنيئًا للي بيمن الله عليه بالشهادة".
عانقته حين عودته، ليهجع قلبها لبقائه، ولكن للأقدار سرًّا لا تدنوه أمنية أو خطر.
وتختتم النسوة همسهن المتحسر على الفقيد: "سبحان الله، اللي إلو (له) مدّة ما بتقتله شدّة ، رجع من الحرب سليم، ومات بأهون الأسباب".
وتستمر الحروب، كالنار تأكل زرعنا، ويبقى في الأكف ندىً يلثم الأرض، وأمنية بالشهادة، تليق بحنوها على الراحلين حتمًا.
13-آذار-2014

تعليقات الزوار

استبيان