المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رائحة القصعين 3 – هادي قبيسي



كانت المياه تتهادى كأنها تغفو وبدت سوداء غارقة في القتام، وصدى نقيق الضفادع يتردد على امتداد الوادي وعلى امتداد المجرى. حملت بندقيتي ورحت إلى الماء. ألقيتها على صخرة بجانبي غمست يدي وشرعت أغسل وجهي الذي بلله العرق، وأهلت بعض الماء على رأسي. كانت رطوبة الهواء في ذلك القعر تبعث في رئتاي الإحساس بالانتعاش. قفلتُ عائدًا نحو شجرة الحور الكبيرة أتحسس طريقي بقدمي، فوجدت أبا صالح وقد تمدد على الأرض. شاب أسمر يعمل في الزراعة مع والده أيام إجازته. قصير القامة، مفتول الكتفين، ذو بنية قوية، رياضي، يهوى كرة القدم. كان خليقًا ببنيته أن تعينه على تحمل المهمات الصعبة، وكنت بالنسبة إليه مجرد مبتدئ في الحياة العسكرية بكل تعقيداتها ومتاعبها.
وضعت رأسي على حقيبة الظهر، وأسلمت السمع لخرير النهر والهدوء المنساب من تلك الموسيقى الطبيعية. مددت رجلي، المبللتين من أثر عبور النهر، بقدر ما استطعت في تلك الزاوية الصغيرة. وكمن مل الإحساس بالخطر، غفوت مطمئنًا، ولم أعر انتباهي لذاك الدبيب الذي يصدر عن حيوانات الليل، بما يشبه وقع أقدام الإنسان. ما هي إلا هنيهة حتى استيقظت على نداء أبي صالح لصلاة الفجر. كم تحلو الصلاة هنا، كم يقترب بنا الدعاء والتسبيح. من شدة التعب غفت عيناي من جديد. لا أدري كم مر من الوقت حتى أفقت من جديد وضياء الشمس يسيل من بين فروع الحور يعانق تراب الأرض، وينعكس على المياه بريقًا متلألئًا. وفيما ضجت الطيور تتلو صلواتها الصباحية، نظرت حولي لأعرف أي وادٍ سلكنا الليلة الفائتة. خلعت حذائي العسكري الطويل، وكذلك جوربيّ الخضراوين ووضعتهما إلى جانب حقيبة الظهر. نهضت وخطوت فوق الأعشاب والأشواك نحو النهر. غرفت بضع غرفات طردت بها غشاوة الليل عن وجهي، فسرت قشعريرة في بدني. تجمع باقي أفراد المجموعة. أسندنا ظهورنا إلى شجرة الحور، وكانت أنظارنا إلى النهر. تبادلنا بعض الأحاديث عن اتجاه الدورية. قال أبو صالح إنها المرة الثانية التي يأتي فيها إلى هذه المنطقة، فهو لم يحفظ الطريق جيدًا بعد، إلا أنه أكد أننا لن نتيه مجددًا.
-هل تريد تناول الفطور؟ سألته.
-نعم، فلنبدأ بتحضيره. رد أبو صالح، وشرع يمهد الزاوية التي ركنا فيها، مُزيحًا الحجارة والأعشاب.
فتحت الحقيبة الملقاة إلى جذع الشجرة، فوجدت فيها علبة جبن، وبعض الخيار وعلب عصير وفواكه مغمسة بالماء. أخرجتها وأتى أبو صالح بالخبز، ثم شرعنا نتناول ما بين أيدينا بشراهة، بعد ليلة قضيناها بدون طعام. بعدها خلد أبو صالح للنوم ثانية، فجلست إلى جانب المياه الرقراقة ارقبها في ارتجاجاتها وترنحها وعبور الحشرات على سطحها، ومررت الطرف إلى أقصى ما بدا لي من النهر، حيث أهوت الأشجار إلى المياه في خشوع، فعلقت بها بعض الطحالب. كان قعر النهر مفروشًا بالحصى والحجارة، وعلى أطراف المجرى ارتفعت بعض النباتات. وأبصرت بقع الرمل الأبيض الناعم وقد تناثرت على الضفاف، وبينها توزعت بضع حجارة مكسوة بالطحالب الخضراء. وكانت الضفادع تقفز بين الضفتين ثم تغطس في الماء. إن مظاهر الطبيعة كافية لتؤنسك حين ينام الأصدقاء، أو يفضلون الصمت. مرت الدقائق طويلة، إلا أنه كان ينبغي أن نمكث نهارنا بجانب النهر، حيث يتعذر علينا عبور تلة كفرفالوس الجرداء التي تشرف مواقع العدو عليها.

عندما أطل الظهر صلينا ونزلنا إلى المياه قليلًا، كي نتخفف من الحر. بعد ذلك تناولنا غداءً من سمك التونة المعلب، وبعض الحامض والبندورة. ثم حملنا الحقائب وحثينا الخطى صعودًا إلى جانب النهر. استمر السير ساعةً تقريبًا، إلى أن وصلنا مفترق طرق قدم، تتطاول نحو قمة تلة كفرفالوس. هناك بين أشجار الصفصاف، كانت ترقد إلى جانب النهر مطحنة تعمل عبر ضغط مياه النهر. يعود بناؤها إلى مئة سنة أو أكثر. بعض من الطين والقش والأغصان الغليظة، هذا هو السقف، وجدرانها بعض الحجارة الصامدة، وقد نبتت فيها الأعشاب والزهور البرية الصغيرة. وبين الحجارة صمدت صخرة ضخمة مستديرة مثقوبة الوسط، كانت ملقاة بين الأعشاب على أرض المطحنة. جلس رفيقي يستريح، وبعد دقائق أخرج من حقيبته قربة كبيرة وملأها استعدادًا للابتعاد عن النهر، ثم التفت إليّ معلنًا استئناف المسير من جديد، على أمل ألا نضيّع طريقنا مرة أخرى.
يتبع...
19-آذار-2014

تعليقات الزوار

استبيان