المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

عابر سبيل - منهال الأمين






كان عليه أن يأخذ قيلولة الظهيرة. هي عادته منذ سمع أن الإمام مواظب عليها، لم يبرحها.اجتمع في هذا اليوم سبب إضافي لإلحاحها: مسيرٌ بدأ عند الثانية فجرًا وامتد حتى العاشرة صباحًا. منذ زمن بعيد، لم يقرب معسكرات التدريب، ولم يمشِ ولم يتصبب عرقًا وتعبًا مثلما هي حاله الآن.
إنه العمر، قال في سره. وفي سره أيضًا استدرك: هذا أبو حسن يكبرني بسنتين، أين هو الآن؟ على الجبهة. إنه أمر آخر غير العمر، إنه الخمول. حديث النفس المعدوم بالغزو. التهرّب من النشاطات الجهادية. خفت حماستي لهذه الأمور. خفّت؟ ومتى كانت متقّدة حماستك. كان يجد في التأنيب وسيلة للتعويض. إشباعًا لشعور ما بالرضا. على الأقل أقرّع نفسي، أوبخها على تقصيرها، في مقابل ما يفعله أمثالي في ميادين القتال.
كانت الأفكار في رواحها ومجيئها تطرد النعاس، وقت الصلاة يقترب، وما زال متأمّلًا ولو إغفاءة. لم يخب مسعاه. أسدل جفناه على عينين كانتا تراقبان الأفق المنتهي بسهل البقاع اللبناني. يسأل نفسه: كم مر من الشباب في هذه المعسكرات، صاعدين جبالًا وهابطين أودية، يخضعون لتلك التدريبات القاسية التي صنعت رجالًا حقيقيين. ليتني كنت منهم. شاركت في عشرات الدورات، ولكن أنا هو أنا. أناي تثبّط عزيمتي دائمًا.
وإذا بصوت يناديه:
-    جمال يا جمال، استيقظ، جاء الشباب يزورونكم.
-    هذا أنت يا أبا حسن، فعلًا "جيب سيرة الديب وهيّر القضيب. بعدني عم بهدس فيك".
-    ديب؟ وأنت أسد إنشاء الله.
-    أنا راحت عليّ، أنتم خير وبركة.
-    تنهد أبو حسن عميقًا ونظر إلى الأفق الممتد، وقال لجمال:
-    ألا تذكر أول يوم جئنا فيه إلى المعسكر.
-    ومن ينسى يا حاج. السيد عباس والشباب الأوائل.
-    نعم كانت أول دورة، وقد أصر السيد أن يكون أول الملتحقين.
-    أيام حلوة وذكريات عزيزة، ذهبت ولم يبقَ منها إلا خيالات موجعة.
-    كيف تقول ذلك يا جمال، تلك مشاهد ومواقف لا تفارقني، لم يذهب شيء، ولم تخفت حماستها وصدقها وعفويتها.
-    أحقًا هكذا شعورك؟
-    تبدو محبطًا يا صديقي، كيف تسلل إليك الشعور بفقدان الاهتمام بما حولك.
-    أنا لم أفقد اهتمامي، ولكن لم يعد هناك من قيمة لشيء، نحن نعيش الخواء الكبير.
-    خواء؟ هذا واحد من مصطلحاتكم أيها المتعلمون، أنا لا أستطيع أن أستخدم هذه الكلمة، لأنني لا أشعر بها أصلًا. قد أمل قد أتألم قد يطول انتظاري لتحقيق هدف ما، ولكنني لم أقع يومًا فريسة هذا الشعور بافتقاد الحياة معانيها الكبيرة، هي محطة، ولكنها أمانة واختبار وفرصة لإثبات الذات، وإلا هل يُعقل أن نغادرها كما جئناها دون أدنى أثر يُذكر.
-    حيرتني يا أبا حسن، أنت منذ 1982 تلاحق الموت من زاوية إلى أخرى، ومن معركة إلى مواجهة، أنت لم تقم وزنًا لحياتك الشخصية يومًا.
-    فرق كبير يا صديقي أن تأسرني حياتي، وبين أن أحفظها بدفع الذل والهوان عنها.
-    للأسف أنا لستُ خليقًا بما تقول.
-    عدت للمصطلحات، ولكنني فهمت قصدك. من قال إنك بعيد، أنت أقرب إليه ولكنك تتجاهل هذه الحقيقة.
-    نعم أتجاهل، وأتخاذل وأتمارض، وأخترع لنفسي المبررات، منذ بدأنا العمل كان همي كيف أطوّر وضعي التنظيمي، وكيف أتدرّج، نسيت في زحمة العمل والمتطلبات بأنني جندي في الأصل، آثرت الانسحاب إلى الخطوط الخلفية، والنتيجة كانت مزيدًا من الانجذاب إلى الأرض، إلى الدعة والراحة والخمول. الخمول يا صديقي قتلني.
-    كل في مكانه يا جمال يجب أن يكون معطاءً. لا تستهن بما تفعله أنت، تمامًا مثلما لا تستهين بما نفعله نحن في الجبهات...
-    كلام عزاء هذا يا أبا حسن. ماذا يصنع مليون مثلي مقابل فرد قرر أن يهبهم حياته. مليون قليل أمام حياته، لأنه مهما فعل هؤلاء ما عوضوا عليه ولا منه شيئًا.
-    مخطئ أنت، يموت الشهيد حين يموت من يهبهم حياته هكذا...
قطع صوت الآذان كلام أبي حسن، قام جمال من مكانه جفلًا، نظر إلى الزاوية التي كان أبو حسن يشغلها منذ هنيهة فلم يجده. ناداه بصوت خفيض، حاسبًا أنه لم يبتعد كثيرًا. كان هنا، أين اختفى هذا الرجل؟ حدث جمال نفسه.
حَيْعَلَ المؤذن وكبر وهلل، ثم دعا إلى صلاة جامعة في مصلى المعسكر. قبل إقامة الصلاة، نفخ أحدهم في مكبر الصوت، للتأكد من عبور الكلام إلى أسماع المنتشرين بعيدًا، وبدأ ينادي: أيها المجاهدون الشرفاء، تزف المقاومة الإسلامية إليكم أخاكم أبا حسن، الذي قضى صباح هذا اليوم شهيدًا دفاعًا عن أرضنا المقدسة... لم يملك جمال نفسه، سقط بين المصلين مغشيًا عليه.

26-آذار-2014

تعليقات الزوار

استبيان