المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رائحة القصعين 5 – هادي قبيسي





قال أبو صالح :
-انتبه يا علي إلى صخرة كبيرة حفرت فيها المياه جرنًا.
-لم أصادفها إلى الآن.
أعدنا الكرة لثلاث ساعات متواصلة نرتاح حينًا ونبحث حينًا من دون جدوى. وحين هممنا أخيرًا بالاتصال بتيسير عبر الجهاز اللاسلكي، إذ بنا نصادف العلامة: حفرة صغيرة وقد ركد فيها ماء أمطار أيلول. انتعشت ذاكرته وأدرك الطريق.
- إنها باتجاه الشمال قرب أشجار صنوبر.
بعد دقائق عدة وصلنا إلى النقطة، وضعنا الحقائب والبنادق ثم جلسنا نستريح في البقعة التي ستصبح موطننا للأيام القادمة. كانت هناك ملاءات بلاستيكية مفروشة تحت إحدى شجيرات البلوط، وتحتها منظار وبعض العتاد العسكري: خوذ حديدية للرأس، دروع للصدر، وأشياء أخرى. إلى جانبنا في الجل الأسفل مدفعية صغيرة تستعمل للهجوم القريب، وكان إلى خلفنا لجهة الشرق بضع أشجار صنوبر باسقة. في الجو كانت رائحة الصعتر والقصعين المفترش الأرض إلى جوانبنا تبعث الدوار والانتعاش معًا.
إلى الشمال كانت التلة تنحدر نحو الوادي العميق. في مقابلنا كانت ترقد قرية "المشنقة" ببيوتها المتباعدة، تلتف بينها الكروم والأشجار، وتقطعها طريق ضيقة تتسع لسيارة واحدة، تنتهي إلى موقع عسكري يسمى موقع المشنقة. كانت تمتد أمام المنازل الجلول المزروعة بالزيتون والذرة والليمون وبعض كرمات العنب. إلى الأسفل أبصرت بين الكروم منزلًا حجريًا قديمًا قد انهدم سقفه. استلقيت على ظهري وأخذ الهواء يبدد عرقي. هذا الاحساس يجعلك تنسى متاعب المسير المتواصل بين الجبال.
رفع أبو صالح الملاءات وأخذ المنظار. ثم راح يقلب نظره بين القرية والموقع. ولما وضع المنظار جانبًا وقعت عيناه عليّ فسألني :
-هل أنت متعب؟
-قليلًا.
ثم اقترب وأخذ درعًا من تحت الملاءة ووضعه على الأرض وجلس عليه.
سألته :
-كيف أتى الشباب بهذه المدفعية إلى هنا؟
-لقد وضعها أبو الفضل على ظهر البغلة ووصل بها إلى النهر، ثم ساعده حيدر (رحمه الله) على حملها إلى هنا.
-أين هو الهدف الذي أتينا لرصده؟
-أترى ذاك المبنى المكون من ثلاث طبقات هناك؟
-نعم.
-يقطنه أحد العملاء اللحديين، ويبلغ من العمر سبعين عامًا، وهو يذهب عادة كل يومين أو ثلاثة إلى الموقع سيرًا على الأقدام. يقضي عددًا من الأيام هناك ثم يعود.
-ماذا نريد منه؟
-سنرصد تحركاته خلال الأيام الثلاثة التي سنقضيها هنا.
أخذت المنظار وحدقت بالمنزل، كان متدثرًا بالأشجار من اليسار واليمين، وأمامه امتدت جلول زراعية جرداء، وحين أجلت الطرف بالقرية عامة بدت هادئة قليلة السكان مع كثرة البيوت.
سألت:
-لماذا يقاتل هذا العجوز إلى جانب الصهاينة؟
-لعله اتخذها صنعة له، فبيته كبير متعدد الطبقات، ويملك مساحة لا بأس بها من الأراضي، فهو يتقاضى مبالغ كبيرة لقاء عمله، ناهيك عن الخوات التي يفرضها على أهل القرية.
ورحت أراقب القرية بيتًا بيتًا. بدت قديمة لم يتجدد عمرانها ولم ترتفع طبقاتها. كانت الشمس قد قاربت الزوال حين غط أبو صالح في النوم، فيما شرعت أراقب ذاك المنزل. كان الهدوء لا يزال مخيّمًا على القرية، وكل بضعة دقائق كنت أضع المنظار على عيني وأحاول التحديق أكثر فأكثر بانتظار أن يطل الهدف. وبعد لحظات تجولت قليلًا حول النقطة التي استقرينا فيها، أبحث عن كل شيء غير مألوف يشير إلى وجود لغم أو متفجرات أو أي شيء. وبعد أن اطمأنيت إلى محيطنا، عدت إلى المنظار وراقبت القرية قليلًا. ولما توسطت الشمس السماء أيقظت أبا صالح. انتظرته ليتيمم وينهي ركعاته لأسلمه المنظار، وأؤدي الصلاة، على بعد أمتار بين الشجيرات، حيث تناثرت حبات البلوط بين الحصى، وافترشت أوراقها الشائكة أديم الأرض. فتشت عن حصاة ملساء يمكنني السجود عليها، ثم مهدت الأرض وأقمت الصلاة، ولما فرغت أتيت بكتابي القرآن والدعاء، تلوت بضع آيات ودعاءً صغيرًا من الصحيفة السجادية، ثم ركنت إلى جانب رفيقي الذي كان يراقب الطريق الممتدة من الموقع إلى منزل العميل.
-هل رأيت شيئًا؟
-كلا، لم يظهر إلى الآن.
-هل يمكن أن يكون قابعًا داخل المنزل؟
-كلا إنه غالبًا ما يخرج إلى الحديقة، حسب ما رأيناه في المرة السابقة، فهو يعتني بها كثيرًا.
-أعطني المنظار قليلًا. هذا اللعين لا بد وأن نجده هذه المرة!
-كم أصبحت الساعة الآن؟
-هه، لقد نسيت الساعة.
-تركتها في القرية؟
-إنني دومًا أنسى هذه الساعة اللعينة.
كانت الشمس قد أصبحت في مقابل أعيننا عندما أخذت تدنو للغرب فغدت الرؤية شحيحة، وعبثًا، لساعات عدة متواصلة حاولنا العثور على العميل، إلا أننا لم نره لا على الطريق ولا في المنزل. تركنا المنظار، وجلسنا على الدروع كي تقينا من الأشواك، ورحنا نحضّر الغداء.
-لقد أتيت ببعض البطاطا المطهوة، أليس ذلك أفضل من الطعام المعلب؟
-نعم بكل تأكيد.
-هذه المعلبات تثير المعدة وتتركها خاوية.
- البطاطا المطهوة حل رائع.
أخرجت البطاطا من علبة صغيرة ووضعتها في صحن بلاستيكي، ثم أتيت بأرغفة الخبز، أسندنا ظهورنا إلى جذوع أشجار البلوط وأكلنا البطاطا والبندورة. ثم أتيت بحبات الجوز، كسرناها وأكلنا ما فيها. لقد كان غداءً مميزًا بالنسبة إلى سمك التونة المعلب الذي عهدناه.
قال أبو صالح وهو يضع المنظار على عينيه :
- ذهب الرفاق إلى منزله مرات عدة ولم يجدوه، كنا نريد أسره. وفي إحدى المرات ذهبنا، ومكثنا ثلاث ليالٍ في حديقة منزله، إلا أنه لم يأتِ.
-من كان في تلك المهمة؟
-كان معنا أبو خليل، وأبو الفضل. لقد بدأنا التحضير لهذه العملية بالرصد والاستطلاع منذ ثلاثة أشهر، ولم نحصل على أية نتيجة.
-إنه لوقت طويل. كل هذا التعب، عشرات الدوريات المرهقة إلى هذه التلة النائية دون جدوى!
-هذا طبيعي. إن مثل هذه العمليات قد يتطلب مدة طويلة.
-هل من الممكن ألا يأتي خلال مكوثنا هنا في الأيام القادمة؟
-ينبغي أن يأتي إلى منزله، قال أبو صالح، وقد بدت على جبينه الذي لوحته الشمس علامات التفاؤل، فتنفست الصعداء.
قطعنا ملل النهار بأحاديث كثيرة، وتبادلنا النكات. كان أبو صالح قد بدأ ببناء داره في كفرملكي استعدادًا للزواج، ووعدته أن أساعده ريثما نعود. حاولنا تبديد الوقت، وكنا نتحدث والمنظار على أعيننا.
 واخترق هدوء تلك اللحظات دوي انفجار قوي وتبعه آخر أشد منه قوة آتٍ من بعيد، ثم سمعنا صوت الطائرات وهي تحلق على ارتفاع قليل ومرت مزمجرة من فوقنا وأبصرناها وهي تلتف نحو الغرب... يتبع
18-نيسان-2014

تعليقات الزوار

استبيان