المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

عد يا ولدي ... - منهال الأمين


إلى عباس* في ذكراه الثامنة والعشرين...





في الصباح الباكر أتيت. كانت أيام صيام. سألتك: ألا تنام وقتًا إضافيًا تتقوى به على الجوع. الجوع؟ ومن يشعر بالجوع يا أمي وهو ينظر إلى عينيك؟ كفاكَ مراوغة، إذا كان الأمر كذلك، احزم حقيبتك وامضِ معنا إلى الجنوب. لا أستطيع صدقيني. قد أصعد إليه محمولًا عما قريب. أُبصق كلامك يا عباس، كنت قبل قليل شاعرًا وصرت ناعيًا. يكفيني يا بنيّ قلقي هدّ حيلي. لكل زمان عباسه يا أمُّ، ولكل عباس زينبه، ولولا ذاك ما قامت للثوار قائمة.
عباس كان في الصباح على المحور المتقدم، يعتلي الجرافة، يحاول تدعيم الساتر المقابل لمواقع العدو. أُطلقت قذيفة صاروخية باتجاه الجرافة ولكنها لم تنفجر. نجوت يا ولدي. ولكنك لم تعد إلى حضني. سريعًا انتقلت إلى الهجوم الذي أعد ليتلها، وتحدد موعده صباح اليوم التالي. أعرف الآن لماذا رفضت الانضمام إلينا في الجنوب. دخلت وشقيقيك في أتون النار. قلبي يتقطع يا ولدي حين أتصور المشهد. أنا، وإن كنت فخورة بكم فعلًا، إلا أنني يا ولدي أمٌّ حقيقية، لست من جماد، لم أُخلق من زند الصخر. أدري يا أمُّ، ولذا نحن أبناؤك أبناء الحياة. لولا عشق الحياة والخلود لم نبادر، لم نقاوم، لم نقتحم حصون الموت. ارفق بقلبي يا بني، قل لي ما يطمئنني. سأعود إلى قلبك يومًا يا ست الكل. آه من كلامك، لن أقول المعسول، ولكنه كلام من أحلام وأمنيات، لا أجد له في عالمنا تفسيرًا ولا مصداقًا. بلى، ولن تجدي ذلك مطلقًا. للأماني والأحلام متسعاتها، وهذه الدنيا تضيق بها.
هذا الصباح، كالذي مضى، كالذي انقضى من وقتي مقبوضة القلب. أترقب، وأترقب، وأترقب. لا قدرة لي على احتساب الوقت، ولا احتمال حلول ذاك الموعد. انتظاري كمن جلس وقد هموا به يقتطعون جزءًا منه. أموت ألف مرة قبل أن أموت. يا ليتني أُنعى قبل أن يُنعى أحدكم... هوّني عليك يا أمّي. أنا الآن في طريقي إلى الجبهة. يتربص بنا خلف تلك الأكمات والتلال عدو لئيم. يجب أن يتصدى له بعضنا حتى يدفع عن كلنا. ولكن... أرجوكِ لا تقاطعيني، فأنا لا أجرؤ على التقدم وأنت تخاطبين عقلي وروحي وقلبي. دعيني أمضي بسلام. وسط النار والأزيز، على التماس مع الموت المتحفِّز... آه يا أمي، من يملك الشجاعة ويملك الحب يمضي على مضض. لا تظني أني أبادل حبكِ، أو أخلي ساحة قلبي من حضورك. أنتِ ماثلة قبل الأشياء وبعدها. يا ولدي إنها ثمانية عشر ربيعًا فقط، متى امتلكت كل هذا الحب. إنه ليس عمري يا أمي. إنه أنت وأبي وإخوتي وأهلي وناسي وتاريخي، إنها الجذور التي لا تُثقل السائر، ولا تشده إلى أرضها، بل تمده بالحنين، يذخّر به قلبه ليتوثب.
قد كنتُ صغيرهم، وأُوكلت إليّ مهمة قيادتهم. لا أُبالي أنا بالرتب، كلما عرضت لي أبعدتني عن هدفي أشواطًا. المهم فيها أنني استطعت أن أوزع المجموعة في ذلك المنزل، كما يتطلب الميدان، واخترت لنفسي طلّاقة اصطُنِعت في شباك خشبي، ذي مساطر متراصة فوق بعضها، انكسرت اثنتان منها، فكانت مجالًا للمراقبة والرماية. لم تكن هذه طلّاقة عادية، كانت في انتظاري يا أمي. فأنا ما إن رميتُ أول رشقاتي، وأردت إتباعَها بأُخرى، لم أدرِ ما حل بي، أريد أن أُكمل يا أمي، أريد أن أطلق النار، أنا هنا لأقاتل، ما هذا الشعور البارد الذي يتمدد في أوصالي؟!. لا لا، ما هذا بوقت نوم، ولا تراخٍ، ولا استرخاء. غلبني الشعور بالخفة، بدأت أشعر برغبة عارمة في التحليق. جميل لو استطعت أن أحلق الآن، سأُغير عليهم كنسر كاسر. أمسكني شقيقي، لا أدري ما الذي أتى به؟ كيف وصله شعوري، لماذا تُراه يمنعني من التحليق؟. قلت له: اتركني يا أخي، أنا أتحرر الآن من أثقال الأرض. سمعته يقول: عباس أنت الآن تغادر عالمنا، أُتلُ الشهادة، أُذكر آخر أذكارك. سألته لماذا تقول ذلك يا أخي. كأنه لم يسمعني. كرر مقولته الأولى، وطلب مني إن كنت أسمعه أن أشد على يده. كفاكَ يا ولدي ما عدت أحتمل الأمر في خيالي... لماذا يا أمي فها أنا أشد على يده ولا أبالي، قواي لم تغادرني، هناك فقط شعور بالخفة يزعجني. ويلي عليك يا عباس، لو أستطيع يا ولدي طلبتك من الله أُعطية، اعتقه لي يا رب ليوم، لساعة، للحظات ... لا يا أمي أرجوكِ لا تحرميني من هذا الشعور. لا تطلبي من الله أن يمنع صعودي، واقترابي منه زلفى. لم أعد أستوعب كل ما يجري حولي. سحبوني لينزلوني إلى الطابق السفلي. ما قصتهم، أنا أصعد وكل شيء بي يحلّق، علام يهبطون. حضر شقيقي الثالث، ضمني إلى صدره حيث كان يجلس في مقعد سيارة. سألته لماذا يترك الهجوم ويجاريهم في الخروج من المبنى. لم يجبني. كان حزينًا، ويضغط بيديه على أطرافي. كأنني أصبحت بلا رجلين، أشعر بجناحين فقط. حتى أصابعي لم تعد تأتمر لي. لم أعد أرى شقيقيّ، ولا من يقود السيارة، ولا حتى إن كنت ما زلت في حضن أخي، أو إن كان هو يركب المقعد الخلفي أم عاد للهجوم. من الجيد يا أمي أن يكونا مع بقية الشباب عادوا إلى الهجوم. لا بد من إسقاط تلك الحصون. أمي، هل تسمعين كلامي؟ أمي؟ أنا أحلق من جديد، أينكم؟ أين ملاقاة وجهك الباسم، وحضنك الدافئ؟. هذا الحضن الذي لا أبادل به كل العلى. حلقتُ كثيرًا يا أمي، ولكنني ما زلت أبحث عنكِ. عد يا ولدي. إلى أين أعود يا أمي، فأنا لم أغادر حضنك أصلًا، ولن أغادره أبدًا. 

*الشهيد عباس علي الشاب – من بلدة المروانية/قضاء الزهراني – مواليد 1968 – استشهد في 2-5-1986.
02-أيار-2014

تعليقات الزوار

استبيان