المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

مسيح القنطرة (1) – مهدي الطقش


صباح الأحد 13-04-2014 للميلاد، قررت الذهاب إلى جبانة حي السلم لأزور قبر أحد الأصدقاء الذي مضى إلى رحمة الله منذ فترة وجيزة، وقد علمت متأخرًا أنه ارتحل ودُفن هناك. دخلت المقبرة التي احتشدت فيها القبور بانتظار يوم المبعث. خطوت بينها ألتمس قبر صديقي، وبين الخطوة والأخرى كنت أسترق النظر إلى أشكالها وأتفكر في أحوال أصحابها. تباطأت خطواتي، وخلت نفسي أمشي بين نيام، حرصت أن لا أوقظهم. وصلت إلى شجيرة نبتت بين قبرين كان علي تجاوزها لأكمل طريقي، وما إن أحنيتها بيدي، سطعت بوجهي أشعة الشمس المنعكسة من على قبة لمجسّمٍ صغيرٍ لمسجد قبّة الصّخرة، يعرّش على ثمانية أعمدة، مكسوّة بالبورسلان العتيق. المجسّم يخبئ تحته مباشرةً قبرًا ذا رخامة سوداء، مسوّرًا بالحديد، وقد أحاطت بالمكان أعشاب برّيّة وشجيرات مختلفة طال عليها الزمن. انتابني الشوق لمعرفة صاحب القبر، الذي جُعل من مدفنه معلمًا لفلسطين وأماكنها المقدسة.



وصلت إلى ضريح صديقي المتوفى، قرأت الفاتحة، وعدت أدراجي أيمم شطر القدس الصغير الذي ارتفع عن الأرض، تاركًا بينه وبين من يسكن أسفله مكانًا لوقوف الزائرين. كنت أتقدم ببطء وأشبع ناظريّ من بعيد بتأمل القبة تلك، شبيهة قبة الصخرة ، ومع كل خطوة كنت أحس أني أقترب من فلسطين أكثر، لم يكن ليشفي صدري سوى معرفة هوية الساكن تحت ذلك المجسم. صار بيني وبين القبر عشر خطوات، عندما لمحت أحدهم يقف من الناحية المقابلة للمجسم، يمسك قضبان الحديد بيديه ويتمتم بما تيسر له، كانت عيناه تحدقان بالقبر كأنما ألفتاه منذ زمن بعيد. ويداه تمسحان عنه الغبار والتراب.



ما إن وصلت بدوري إلى جانبٍ من المزار، رميت السلام على ذلك الشخص الأربعينيّ، ذي اللحية الكثة، والجسم المتناسق. فرد عليَّ السلام. نظرت إلى شاهد القبر، وقد خُطت الكلمات عليه بخط عربي جميل : "روضة الشهيد القائد...". اقتربت من الزائر، وقد زاد من فضولي لأعرف عنه وعن صاحب القبر. عرّفت عن نفسي بأنني زائر لهذه المقبرة، وطلبت منه أن يعرفني بالشهيد. فتقاطرت من فمه الجمل متقطعة، مستعيدًا بها الذاكرة بحنين وألفة، وحرقة وألم، وعظيم تقدير لصاحب الروضة هذه.
قال لي: سأحدثك بما يخطر في ذهني ولا تسألني أكثر، فلن أتكلم بأكثر مما يدور في خاطري هذه اللحظات. اسمع، هناك الكثير من الصمت كان يلف شخصية الشهيد الذي كان رفيق دربي، من الصعوبة بمكان أن تحصل على معطيات عنه وعن عمله لكثرة صمته، كان حريصًا جدًا على عمله في المقاومة. صمت محدِّثي ودمعت عيناه، ثم تابع: إنه يسكن هنا. وأشار إلى صدره. لقد عرفته مذ كان شابًا يافعًا. كان منزله يتوسط المسافة بين المسجد في حي السلم والكنيسة في المريجة، لقد جاء من الشويفات، وتحدر من أبوين مسيحيين، واكتسب السماحة والهدوء، وأفصحت شخصيته عن قائد ميداني مقاوم في سنواته الأخيرة. أشار الحاج إليّ بالجلوس كأنما أراد أن يدلي بشهادة أمام صديق دربه الذي فارقه في العام 1991، وسبقه إلى الشهادة.
مد يده إلى جيبه وأخرج سبحة، وضع يديه على ركبتيه وأكمل: كانت نقطة تمركزنا في قرية ديردغيا العاملية. ننطلق من هناك إلى القرى المجاورة في عمليات الاستطلاع وغيرها من العمليات العسكرية. أذكر أننا كنا دائمًا ننتقل ببزاتنا العسكرية في سيارة يقودها الشهيد بنفسه، وكثيرًا ما كان الشهيد الذي عُرف في تلك القرية بكرم أخلاقه، يطلب مني أن أصعد في الخلف عندما نلتقي بأحد المارة على الطريق ليوصله بنفسه إلى حيث يريد أن يذهب. يهتم بالناس، بالقريب والبعيد، وكان يردد على مسامعي دائمًا بأن الاهتمام بالناس من أفضل الأعمال. أعذرني على عدم تسلسل أفكاري لأن شوقي للقائه يغمرني. قال لي.



 تأمّل الضريح ثم قال: لم تكن صلاة الليل لتفارقه، كانت واجبة عليه كالصلوات الخمس. كنا نستيقظ على بكائه في صباحات المحاور. كثير الذكر لله تعالى، حتى في غضبه كانت عبارته:"لا إله إلا الله". كثيرًا ما كنت أسمعها من فمه عندما يشعر أننا نغتاب أحدًا، فكنا نفهم بأن الصمت أولى لنا من الحديث عن الآخرين. وعندما كنا نمازح بعضنا بعضًا كان يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله" مبتسمًا. حاج حيدر (اسمه الجهادي). في مقتبل العمر، ولكنه كان يحرجنا بثقافته في الفقه وأحكامه ويبارزنا بها، على زهده بالمبارزة. دقيق جدًا. سأخبرك عن حادثة تبين مدى تصميمه على أن يلتزم بأحكام الشرع ولو على حساب راحته. هنا رن هاتف الراوي، فاعتذر مني ليجيب: ألو؟ الآن؟ حسنًا، أنا في طريقي إليكم. التفت إليّ وقال: اسمع، سوف نلتقي هنا الأسبوع القادم، لأنني وعدتك بأن أكمل لك ما خبرته عن الشهيد حيدر. فقلت له سأكون على الموعد في مثل هذه الساعة - إن شاء الله- ثم انصرف، فيما وقفت متأملًا ضريح الشهيد. أودعته سلامي وأشواقي لسماع المزيد عنه... يتبع.

03-أيار-2014

تعليقات الزوار

استبيان