المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

25 أيار: وهو الجميل – لنا العزير




يعرف معناه أكثر من عرف المعاناة بعينيه وتلمسها بجسده وروحه


" ما تمرق عالجسر، في عجقة سير من صيدا لبيروت ، حاول تروح بحري". خاطب أحد السائقين العائدين من الجنوب سائقًا آخر أمامي،  في خط الذهاب نحو الجنوب. 
نعم كانت زحمة سير خانقة، فهو يوم عطلة ، والناس بمجملها متجهة نحو الجنوب ، إذ إن معظم أهل هذه القرى، ناثَرَهم الاحتلال في العاصمة، لكنهم يرجون كل مناسبة، ارتدادًا إلى موطنهم.
هي الطريق نفسها، ولكن ما قبل التحسينات والتسهيلات، يسلكها من زار الجنوب أيام الاحتلال، لكن أحدًا لا يعرف معنى الاحتلال مهما قرأ عنه، إلا أن يحمل تلك المشاهد على بوابات العبور.
من عرف معنى المرور على حواجز التفتيش الإسرائيلية أو بالأحرى اللحدية، مع سابق تصريح للبنانيٍّ يريد الدخول إلى منطقة أخرى من بلده، ولقاء أهله.
من جلس ولو دقيقة مع أبو درّاج* ، على حاجز الحمرا، كان يكفي للعابر أن يرى تدلّي كرش هذا الرجل من خيرات البلد المحاصر من أمثاله، وطريقة إرخاء كرسيه إلى الخلف، كي لا يضطر إلى رفع رأسه للحديث مع الجنوبي، الذي يحمل بيده تصريحًا، والكثير من الشروحات لأسباب الزيارة.
كان يكفي أبو درّاج مجرّد إشاعة، عن أبناء أحد العابرين، الهاربين بشبابهم من  التجنيد الإجباري إلى بيروت، أو عن إخوته وأقاربه، حتى يقضي العابر طيلة النهار في "حرق الأعصاب والإذلال". وبين كل عابر وعابر، يلتفت إليه أمين معابر العدو: " إنو قلتلي ما بتعرف إبن خيّك شو بيشتغل مع حزب الله؟!. إبقى قله لإبن خيّك، بيت أهله هون ينساه، لأنه صار رماد، وإذا ما بيترك اللي هو فيه، كلكن حتندعسو بجريرته".
من لم ير هذه المشاهد، ولم يشهد هذه المواقف، لم ير شيئًا من... الاحتلال.



حتى البيوت التي هُدّمت، والأسرى الذين اعتقلوا إلى مراكز التعذيب، كان وقعهم في النفس أسهل، من الوقوف بين يدي حماة العدو، يقطفون براعم العنفوان فوق رؤوس العابرين، يسكبون ذلّ نفوسهم، قهرًا على مناكب أصحاب الأرض.
هناك ، حتى الهمس كان ممنوعًا.
 طفلة في العاشرة من عمرها من سكان بيروت، بصحبة خالتها في زيارة لأخوالها تنظر إلى أبو درّاج، وهو يُمعن في ضحك متغطرس على شفاهٍ شققها الرعب المنتشر، جنودًا تتأهب ليل نهار حوله، تقول لخالتها: ليش عميحكي معك هيك؟ واحد بلا أخلاق، شو الأرض للّي خلفه؟!".
تعصر الخالة يد ابنة أختها، كما لم تفعل من قبل: " اسكتي هلأ بيحبسونا هون ".
الطفلة ، كما لا يخاف الشيب : " إي يسترجوا! على كل هني مرعوبين من اللي ممكن يقلبوها فوق راسن اذا بيعملولنا شي ".
وبعد تعليلات وتبريرات قدّمتها الخالة له، على سبب صحبة إبنة أختها معها، مع أنها ليست من المنطقة، ينتقل ليستدرج الطفلة علّه يحظى بمعلومة، تُغدق عليه عطايا العدو:
-" إنتِ شو جايبك لهون ومش بلدك هيدي؟".



"وإنتَ هيدي مش بلدك، إنت بدوي، شو جايبك لهون". هي العبارة التي قصمت ظهر البعير، والتي كلّفت الخالة ساعتين من التوضيحات والتبريرات، والتوعّد بتربية الفتاة ووو... ولكن هم يخافون حتى نظرة الأطفال في أعينهم ، فيمعنون في التمرّد ، كبندقية عدوّ ، ترتجف فوق رأس محقّ.
هناك، وفي المشهد نفسه، جنازة، تقف على مسافة ما قبل المعبر. يحمل الجثمان أبناء المرحوم وتصحبهم زوجته وابنته. بعدما أُذن لهم بالعبور، يمضون سيرًا على الأقدام إلى سيارة الموتى في الطرف الآخر. هذا تبعًا لتصاريح استحصل عليها أقارب المرحوم في اليوم السابق. هذه المسافة التي لا تتعدى 200 متر، تطلبت حوالي أربع ساعات ليتم الإفراج عن الجثمان، من تفتيش وتحقيق لا سؤال فيه، أكثر من مضغ حلويات، يتقنه ابو درّاج كمتسلطة تجيد لوك اللبان بين أسنانها بكل مقت الدنيا.
تلك الـ " إمممم " التي يطلقها حارس العدو، بعد كل إجابة ، للتشكيك تارة وللسخرية تارة أخرى، وأحيانًا لا لشيء سوى إظهار معرفته بالأمور، كمن سُجن في الظلام، ويضرب بكفيه في كل الاتجاهات كلما تحسس الخطر حوله. هذه الـ" إممم" لا يعرف أحد مقتها، إلا من نظر في سخف هذا المخلوق، والقهر الذي يفرضه هذا الوضع للوقوف بين يديه. حتى القبر كان يومها قيد التصريح.
حين تريد أن تعرف الاحتلال، لا تقرأ التحليلات وعناوين الثورة، فقط إمضِ إلى معبر واحد. أنظر في عينيّ حارس العدو، وفي أسياط الشمس على وجنات الأطفال  المنتظرين، عندها يمكنك أن تقول أن كل شيء يرخص، أمام بسمة امرأة مسنّة لهذا المعتوه، وهو يشتم أبناءها ويتهددهم، فقط لأنه ليس مسموحًا لها سوى التبسّم.
ويأتي اليوم الذي يمكن لهذه المرأة أن ترفع زغاريدها، ولاءها، وتحتضن ولدها المُبعد عن أحضانها، منذ أن خط الشباب شاربيه. وسيسمع في هذا اليوم كل حرف من كلمات الطفلة تلك : " نعم إنهم خائفون ، وليرحلوا ".
ويحق لهذا الميت أن يعود لأحضان أولاده المنفيين حتى عن زيارته. إنه اليوم الذي يحتضن الوطن نفسه، وفي الطرف الآخر، يحمل العدو أشلاء وجوده المنهك، ويخلّف لحرّاس أمنه ثقوب فئران، لينحنوا أكثر في الالتحاق به هربًا من عارهم وخوفًا من جرائمهم في سطوة اليوم بين يدي أهل الأرض.


* أحد العملاء اللحديين.
22-أيار-2014

تعليقات الزوار

استبيان