المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

خياميات(2): "العجوز المتصابي"! – جلال شريم



من يستطيع محو ذاكرة "الخيام" وأهله!

لا أزال أذكر لحظة دخولي الأولى إلى معتقل الخيام، وبالتحديد إلى باحة المبنى رقم(2)، والمعروف باسم السجن الوسط أو الوسطاني.
لا تزال تلك اللحظة ماثلة أمامي، حين رفع ذلك السجّان الغليظ، الملقب بـ"بيدو"، العُصابة عن وجهي، ووقعت عيناي عليه وهو طويل كالمارد ولون بشرته جاوز حد السمرة إلى الاسوداد، ووجهه بعبوسه يدخل الغثيان إلى القلوب. لعل ذلك كان مقصودًا من العملاء، بأن يكون هذا "الوحش" أول ما تقع عليه عيون المعتقلين الجدد، لاعتقادهم بأن ذلك يدخل الرعب إلى قلوبهم.
ولا أزال أذكر أيضًا كيف سمعت - للمرة الاولى- أصوات المعتقلين من داخل المبنى، من دون أن ادخله. كانوا مثل قفير نحل عملاق يدندن ملء الدُنا.
ولا أزال أذكر –أيضًا وأيضًا - كيف سمعت العملاء يطلقون السباب الرخيص والوضيع والشتائم المقذعة على المعتقلين، عندما يسمعون اصواتهم وهم يتحدثون، فالكلام في حضرة العمالة جريمة.
ولكن بعد فترة، عندما انتهى التحقيق معي ، نقلني العملاء إلى غرفة في ذلك المبنى، وكان الكلام من سلواتنا المفضلة: نتبادل الذكريات والأمنيات، نتبادل المعلومات وبيوت الشعر، ويصدح الصوت غالبًا بالأدعية وتلاوة القرآن.
وكانت معزوفة السباب والشتائم، آنفة الذكر، خنجرًا مسمومًا، غالباً ما يغرزه السجانون في وجباتنا الكلامية.
ولكن...
في ليلة من الليالي خيم الصمت بوشاحه الثقيل فوق فضاء الزنازين الضيق. كان صمتًا قاتلًا، وكان صراخ ذلك المعتقَل يملأ أرجاء الكون بزعيقه وأنينه، من شدة إجرام العملاء وحقدهم وتفننهم في تعذيبه، وهو معلق على العمود ذي الصيت المقيت. كانت ليلة لا تُنسى. في تلك الليلة كان الصمت ملاذنا والنوم مهربنا.
بعد يومين، نقلوه إلى غرفة مجاورة لغرفتي. كان ابن قريتي. لم أستطع أن اسأله براحتي، خوفًا من أفاعي السوء التي تنسل خفية ممسكة بالأفكار. تأوه وقال: "منذ ليلتين قضيت عيد ميلادي الثالث والثلاثين فوق العمود"!
وعم صمت جديد، مثقل بالأسى والدموع ،كونَنَا.
بعد بضعة أيام نادانا الحراس العملاء: "جهزوا أنفسكم، إلى ساحة الشمس". خرجت إليها مترقبًا لقياه. بداية لم أعرفه، بعد أن غير تعذيبهم ملامح وجهه، ونبت شعر عارضيه بطريقة عشوائية، حتى غدا مثل رجل كهف. خلته كان يحدثني بالأمس عن عيد ميلاده الخامس والخمسين.
لم أستطع النظر إلى عينيه. طأطأت رأسي، لمحت أصابع رجليه، صعقتني المفاجأة: "يا للعجوز المتصابي! وضع طلاء أظافر أحمر فوق أصابع رجليه!".
ضربني واقعي كفًا لئيمًا فاستيقظت، وهتف بي هول المفاجأة:
"يا صاحبي هذا الدم المنحبس تحت أظافره من ثقل "فلقة" هؤلاء الكلاب".
كان ذلك ابن قريتي الجندي في... الجيش اللبناني(*).



(*) تعليقًا على مقولة:" أنتم لم تحاربوا الجيش اللبناني" ... البطريرك الراعي في 30/05/2014، مخاطبًا العملاء الفارين إلى الأراضي المحتلة ... الأمر الذي أحيا في مُرّ ذاكرتي بعض الذكريات من داخل دهاليز معتقل الخيام.



10-حزيران-2014

تعليقات الزوار

استبيان