المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

حقيبة مجروحة الخاصرة(2) - يسرى يوسف حايك



        

حضور اجتماعي مميز للحاج حاتم

في مكان التجمع : الحاج حاتم أول الواصلين. سربًا من الطيورِ المهاجرةِ كنّا، وإلى موطنِ الحرِّ مقصدُنا. سمعَ الصُّبحُ منّا الضحكات،  والوصايا،  ودعاباتِ المتبارينَ على الشهادة.
مجدّدًا، صديقي صاحبُ الخمسينَ والأربعة من الأعوامِ، هو أول من يمتطي صهوة الحافلة، وكأنّه في إحدى رحلات مدرسته الأولى.
" لن تعفيكم رحلتكم هذه من أيام مرابطة تمضونها حين تعودون ". وقّع نصّ التعهّد ودوّن أسفله:  أوافق وأشترط أن تكون مرابطتي أيضًا بين يدي سيدتي زينب (ع).
على اسم الله، وذكر بقيته في الأرض، مشينا. الوقت يشقّ سبيلَه في أفئدتِنا المضطرمةِ شوقًا. حينها توقف الزمن، والمكان اختصره مقام. حينها صار لحديث الذاكرة لون آخر يشبه الياسمين رونقًا وطيبًا،  وامتزج الحنين ببسمة، كأنها الآه من أعماق الوجدان تحكي قصة الصابرين على اللقاء.
   بتعرف - يستدرك بعدما سحبني لأقدم ما مضى – إذا الله وفقني للشهادة رح يطلع الي تشييع ما صار لأحد من الشهداء قبلي؛ يعني أقل من الإمام الخميني (قده) بشوي.
عزفت قهقهتي وجعًا وشوقًا: مثل الرئيس جمال عبد الناصر يعني؟
قال: بل أكثر!
أعادت حنجرتي الكرة، ثم إنني السبب استبنته .
-  أنا مختار ورابط وعندي علاقات كثيرة. أضف أنني ابن المالكية1 وإقامتي في النفاخية2 و....
 ماضون إلى الحرب؛ قلوبهم مطمئنة، وذكر الشهادة على ألسنتهم يجري كأنه العسل. أعينهم على راية هناك خفقت، وجدار دوّن الرجس عليه : " سترحلين ... ".
كأن درب الوصول تباعد ذات لهفة وترقب. أخيرًا، إلى المحطة التالية وصلنا. ما إن ترجلنا، وفي ازدحام الوجوه تبدل وجه الحاج حاتم. اصفرّ وجهه وذبلت على شفته البسمة، وأُربكت حركته: قد تُشطب أسماؤنا من لائحة القاصدين، ونُعاد أدراجنا.
عيناه كانت تدور في كل اتجاه. لحظات وأمسك بيدي وبين المحتشدين رسم لنا خطًا.
-    حاج جعفر صديق من أيام " صافي"3 ، وهيدا علاء. صافحتُ الرجل. وبسرعة بادره : نحن ما بدنا نرجع. شوف كيف رح تمشيها؟
لحظات وعاد الحاج جعفر بالبشرى: خلص مشي الحال. موفقين يا رب.
تنفس الحاج أبو علي الصعداء. هدأت ملامحه واستعاد ابتسامته. شكر الرجل وودعه.



ها نحن على مشارف القداسة، بدأنا نتنسم عن قرب عبقها. غير أن الجمع بين طريقين سينقسم. سأفارق أبي وصديقي ورفيق الدرب بعد هنيهة. عيناه كانت تودعاني، وروحه تستبقيني. حين خُيِّرتُ بينه وبين صديق آخر لي، صوت من أعماق قلبي كان يهتف: يا صبي خليك مع الحاج حاتم ...
حاولت جاهدًا ملازمته، وقد شاء الله ذلك فانطلقنا مجددًا، والوجهة المحددة: ريف القصير.
قادمون إلى الوغى من أعماقِ الحبّ. لا نبالي "وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ". عشاق شهادة لم نزل مذ سالت في محراب العشق قطراتنا.
بدلنا ملابسنا. بلون البساتين وتراب الشام صرنا. شمس آخر الربيع تلفح منا الوجنات، وتعتّق سواعدنا التي تأبّطت السلاح حين انطلاق.
المنصورية محط الرحل. عشرةٌ وزدنا ستّة رجال كنا. في بعض من جنّةٍ حللنا، وأصوات اشتباكات لا تكاد تنتهي، تتناهى إلى مسامعنا من كلّ طرف. كم رغبنا أن نلاعب الرصاص هناك بتكبيرنا ويلاعبنا، ولكن أوامر القيادة جاءت بأن ننتظر ها هنا. على مضضٍ قبلنا. آذاننا لصيحات الفداء ألقت السمع، وأعيننا تعلقت على تلة " مندو "، التي كانت تستريح على بعد، خارج نطاق عملنا.
لم أدرِ إن  كان غفا عاشق الليل، أم لم يغف لحيرة انتابته تجاه تلك التلة، التي لم تكن ترتفع  سوى ما يقارب ثمانين مترًا على أبعد تقدير، إلا أنها استراتيجية في حسابات العسكر.
صلينا أنفاس الصبح سوية، والعهد لصاحب العهد أسمعناه شجيرات البستان وورده، وأرسلناه حارًا مع مياه العاصي الباردة.
تناولن الفطور، وسريعًا إلى "مندو" في مغامرة  استكشاف . أنفاسي تجاور أنفاسه، وروحي متعلقة بروحه، وكلّي سمع لا يمل أحاديثه. مشتاقًا للبيت بدا، وقلقًا على حال من ترك. مشتاقًا للقبر الذي سكنه علي4. يستذكر كلمات أحبته، والحنين يخالط روحه دمعًا وضحكات. ينتظر خلف الشجيرات عدوّه، لأنه وعد حبيبة أن يعود إليها بغنيمة حرب، عوضًا من برازق الشام.
أخذتنا الأحاديث. استرقنا سحر المكان، حتى دخلنا حيز المكان الممنوع علينا، في منطقة اختلف فيها السلاح وكثر فيها القتل. ولكننا  تابعنا، وإلى بيت القصيد انتهينا. اعتلينا التلة، ومنها شارفنا على امتداد من أرض ملتهبة، حتى استيقن صاحبي أهمية تلك التلة على ضآلة ارتفاعها. ثم عدنا أدراجنا ولازمنا الساحة، حتى تحين فرصة الالتحام بمن بغوا صفًا إلى صف، لنريهم بعض بأس، ونسقيهم من كأس أعدوه لنا كرهًا وبغضًا وحقدًا ... يتبع


1 قرية من القرى السبع التي سُلخت عن لبنان إبان التقسيم الذي اعتمده الانكليز والفرنسيون العام 1920، فضُمت المالكية بموجبه إلى فلسطين.
2 قرية من قرى قضاء صور.
3 أحد مواقع المقاومة الإسلامية في إقليم التفاح. جبل عالٍ صعب التضاريس. يضم ضريح أحد الأنبياء على ما يُروى.
4 الشهيد علي حاتم حسين، نجل الشهيد صاحب القصة.





15-حزيران-2014

تعليقات الزوار

استبيان