المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

الخروج إلى المخيم (6): قبل اللحظات الصعبة2




الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد



"طوالبة مجددًا" ...




الشهيد محمود طوالبة كان مسؤولًا عن المحور الغربي (منطقة سكنه)، لكنه في الوقت نفسه كان كثير التنقل بين المحاور. منذ الأيام الأولى حتى منتصف اليوم الأخير لنا في حارة الدمج قضينا معظم الوقت معًا. هذه الحارة كانت تربطنا بها علاقة وثيقة، كنا أحيانًا لا نقوى على تفسيرها ونعجز عن فهم السر من ورائها، لكننا ننشد إليها وتنشد إلينا في سيمفونية انتماء غريبة، لا تعرف مشاعرنا ما يماثلها حتى اتجاه مساقط رؤوسنا.
كانت تقفز في ذهني صور مثقفين ومفكرين ونظرياتهم العلمية حول التغيير الاجتماعي والسياسي، فصرت أقول لنفسي: فليأتِ أولئك بكل تواضع إلى المخيم ليتعلموا من محمود كيف يكون التغيير، وكيف تكون الجماهير رهن إشارة فارسها!.


معادلة التعامل مع الجماهير عند محمود كانت واضحة، فكلما اقتربت من الناس ولامست آلامهم وحاولت مداواة جراحهم ورسمت البسمة على شفاههم، اقتربوا منك واحتضنوك وأعطوك بلا انقطاع. هذه المعادلة التي كتبها محمود بعرقه وبدمه، وبها احتضن قلب المخيم وصار قصة المخيم وفارسه، حتى صارت حكاياته تُقص على الأطفال قبل نومهم.
ذات ليلة كنت ومحمود نتفقد بعض بيوت المخيم، فقالت لنا إحدى النسوة إن ابنها نام قبل قليل من شدة البكاء، لأنه أراد أن يخرج ليلًا ليرى محمود، وبسبب الخوف حالت الأم بينه وبين الخروج فانفجر الابن بالبكاء، ولكن "الفارس" وعدها بأنه سيأتي صباحًا رغم الحرب، ليراه ذلك الطفل الذي نام على صور حكايته.
صباح اليوم التالي خاطرنا وذهبنا. كان الطفل قد علم بأن طوالبة قد مر على بيته ليلًا، فبكى أكثر ولم تذهب بقايا الدموع إلا بتلك الابتسامة البريئة على وجهه لرؤيته فارسه، قبل أن يذهبا في عناق طويل.



كنت أغبط محمود وأقول لعل الله أحبه أكثر مني. قضينا معًا الليلة المطلة على اليوم الخامس للاجتياح. تناقشنا وضحكنا وحزنا وتحدثنا كثيرًا عن الماضي والبدايات، وإذا ما مر المستقبل في حديثنا، شعر كلانا بأن القدر سيعاجلنا، وأن ما هو مخبأ قاب قوسين أو أدنى. كان محمود في هذه الليلة كثير الصمت شارد الذهن، قطعت عليه حالته وبادرت بالحديث: "محمود إذا انتهى الاجتياح وبقينا أحياء"... التفت نحوي كأن كلمة أحياء استفزته وقالت عيناه ما لم يصرح به لسانه: "والله لن أدعها تفلت مني هذه المرة". قاطعني والبسمة على وجهه وقال أكثر عباراته ترديدًا: "توكل على الله".
حان أذان الفجر، صلى الجميع على مجموعتين، صلاة الخوف، ثم بدأت معركة اليوم الخامس واشتباكاته. الساعة تشير إلى ما قبل الخامسة بقليل. الفجر راح يبدد عتمة الظلام رويدًا رويدًا، والهدوء الحذر يلف المحور، فلا تحركات عندنا أو لدى العدو.


لا اقتصاد في الذخيرة
فجأة لمحت، من فتحات الجدار التي صنعناها في الطابق الثالث، تحركات وسمعت همسات ووقع خطى في الطرف القريب لنا من حديقة عمارة أبو الرب. أدركت بأنها فرقة من جنود الاحتلال قادمة لتأخذ نصيبها من الموت الذي ستوزعه عليها بنادقنا. مر ذلك في أجزاء من الثانية ففتحت عليهم نيران بندقيتي بكثافة، إذ لا مكان ولا زمان للاقتصاد في الذخيرة. هذه مجموعة مغرية من جنود الاحتلال والمسافة ما بين فوهة بندقيتك وما بين أجسادهم لا تتعدى الأمتار المعدودة. عليك قذف الموت والرعب مع أكبر كمية ممكنة من رصاصك، والأهم أن يستقر الرصاص في النصف الأعلى من أجسام هؤلاء الذين زرعوا الموت والدمار في أرضك.
أطلقت الرصاص. كبرت وصرخت ليستيقظ النيام. ومثلي فعل الشهيد عبد الهادي العمري الذي كان معي في تلك اللحظة، وهو أيضًا له دور مميز في إحدى معارك المخيم (سيأتي الحديث عنها لاحقًا). لم يكن هناك حاجة لصراخنا كي يفيق من هو نائم، لكنها ردود فعل عفوية يصدرها الجانب اللاإرادي من ذواتنا. كان صوت الرصاص أقوى من كل الأصوات، وجلجلة بندقية عبد الهادي القديمة جاءت كارتداد قعقعة سيف الشهداء في بدر وأحد، ويا لقعقعة سيفك يا حمزة.


الشهيد عبد الهادي العمري

 
بجانبنا كان ينام ثلاثة مقاتلين، أحدهم شبلٌ سلاحه عدد من الأكواع وبندقية من تصنيع محلي. نهض من نومه كفارس متمرس، تمرن على التعامل مع مثل هذا الظرف. كان يقاتل ولسان حاله يقول: هذه البندقية لا تستطيع أن تقف في وجه الدبابات الصهيونية فقط، بل قادرة أيضًا على إلحاق أبشع الهزائم بهم، لأن من خلفها تقف الإرادة والحق مع الفلسطينيين...  يتبع.

25-حزيران-2014

تعليقات الزوار

استبيان