المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

حقيبة مجروحة الخاصرة(3) - يسرى يوسف حايك





... بأفئدة متعطشة للنزال، متلهفة لالتقاء الصفين كنا نمضي الأيام استعدادًا: أعددنا الحفر، أنشأنا المتاريس، والذخائر أودعناها في مأمن تصلها قبضاتنا حين تضطرم الأرض بنار رمياتنا. وإذا ما ركنت لبعض راحة أطرافُنا، أزحنا عنا خوذة ودرعًا، وألقينا بذاك الرأس المثقل لغفوة تحمل كلًا منا إلى دار سبقت ودار تنتظر، وما بينهما حياةُ محاربٍ "تخشّنت" وأجدب رفاهها، وحتى طعامها قلّ وندُر. انقطع عنا كل خبر، إلا ما كنا نعرفه عبر اتصالاتنا القليلة بأهلنا.
ثلاثة أيام مضت. كنا نصل فيها الليل بالنهار، عملًا للحرب المقبلة، ودعاءً لصاحبة المقام، وعهدًا لعينيها أننا لن نتراجع وفينا عرق ينبض وأنفاس تتصعد.
السبت الحادي عشر من أيار: صاحب الخبرة الأطول في تكتيكات الحرب وفنونها مسؤولٌ عن النقطة.
-  والله بتساهلها يا حاج حاتم. يلا فرجينا(أرِنا) مواهبك. التفتُّ إليه ممازحًا بعد أن تمَّ اختيارُه .
-  والله يا صاحبي ما رح ارتاح غير ما ينقلونا ونشارك بالحرب عن جدّ. وعدونا خيرًا للأسبوع المقبل، وها نحن بالانتظار.
لم تكن تقنعنا تلك البقعة، ومعها تلك المهام الموكلة إلينا. ولم تكن تكفينا البنادق البكم بأيدينا. متى تتعالى منا القبضات مكبرة؟ فيُجيبُنا الصدى: لقد أبليتم لبنتِ المرتضى حسنًا، وهذه الجنّات أعدت لكم فأتوها .
لقد تضاعفت مهام الرجلِ الخمسيني، فقد جمع إلى تكتيكات الحرب فنون الأبوة والرعاية لشبيبة ٍعباسيين، ثارت في أوردتهم حميّةٌ علوية. إلى ذلك، كان عليه أن يؤمن لنا الزاد الذي ظلّ في تناقصٍ حتى حدود الانعدام.
وخبير السلاح والميادين هذا خبير طيور أيضًا، يصطاد البيض في أرجاء البساتين ويعود به فرحًا إلى صغاره الذين أنهكت كواهلهم أحمال معركة مرتقبة، فكنا نلتهم ما يأتينا به من صيد ثمين.
وهو إمام جماعتنا، وتالي أدعيتنا في أكثر محاريب الأرض قربًا للسماء، حيث "العهد" يُهدى لصاحب العهد من دون حجاب، لأنه - لا ريب - مدّ كفّه قبةً سماويةً تحرس ركبَ العاشقين. وهناك "التوسل" يرتد جوابه حالًا: سلوا ما شئتم.
-  ربنا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا إليك بزينب وغربتها، بحزنها ودمعتها، بوديعة الزهراء عندها،  ودمع المرتضى المرسَل فوق كفّيها. إلهنا اجعل دم نحورِنا كُحلَ عينيها.
ومع كل تلك المهام التي لا تكاد تنتهي، كان الحاج حاتم يجد لنفسه أوقاتًا ومنافذ يسترق فيها نفسه مخاطرًا للتواصل مع العائلة والاطمئنان إلى حالها، وفي كل مرّة كان يعود بجرعة من شوق وأخبار.
وعلى الهامش مساعٍ حثيثة وملحّة للانتقالِ إلى غيرِ مكانٍ، حتى جاءَه الوعدُ من القيادةِ بأنني وإيّاه، بعد ليلة الرغائب، سننتقل. استبشر صاحبي وانفرجت أساريره، وبدأ فعلًا الاستعداد للمغادرة، فقد أنجز المهام الميدانية كافة، وشرع بتأمين المياه للمجموعة التي يفترض أنها ستستلم النقطة اعتبارًا من يوم السبت، حسب تعليمات القيادة.
-  من زمان وأنا ما تركت الصيام في هذه الأيام المباركة. يا ريت منقدر نصوم.
-  ما أصلًا نحن بحساب صايمين يا حاج.  أجابه أحد الاخوة ممازحًا.
 ربت على كتف الشاب بحبّ: كلّها كم يوم ورح نفطر بإذن الله...
شمسُ الخميس بالغروب أنذرت. فتحت السماء أبوابها لرغائب السائلين،,واستعدت الملائكة لعدّ جمعهم وإحصاء أسمائهم. توضأنا وافترشنا الأرض مسجدًا لحكايات العشق عند كُمَيل وكلماتِ عليّ. انجذبت أرواحُنا ساعة. كلماتٌ أنَّ الحاج في شدوِها : لأيِّ الأمور إليك أشكو...؟  حتى توضأت من دمعه للحسين تربة.
بعد دعاء كميل انفرد كلٌّ منا بدعائه ومناجاته، وخلا بسجدته يحكي لها أسراره: سُبُّوحٌ قُدُّوس ربُّ الملائكة والروح...
ساعات الليل الأولى تمضي وقد لامست أطراف السماء أكفَّنا، وعانقت جباهنا أديم الأرض. سكون الليل كانت تخترقه همسات المجاهدين العابدين ووقع أقدامهم وتمايل أغصان شجيرات كانت تشاركهم ابتهالاتهم. كل شيء كان هادئًا تلك الساعة، حتى جاء الاتصال من الأخ الموجود في نقطة الحرس مبلِّغًا الحاج حاتم عن رصد المنظار الليلي لأجسام ثلاثة تتحرك باتجاهنا من داخل البستان المجاور. أُعلمت القيادة والنقاط المجاورة بالأمر. استنفار تام والرصد مستمر، وعمليات المراقبة مكثفة، لكن الأجسام الغريبة، التي لم نتمكن من تحديد هويتها في تلك الساعات، اختفت.
بفرحة العاشق المشتاق توزّعنا المهام وساعات الحراسة وهاجس الجميع: متى ستبدأ المعركة؟ كان نصيب الحاج حاتم من الحرس فترة الصباح بناءً على طلبه. هدوءٌ ينذر بعاصفةٍ هوجاءَ كان يلفّ المكان. وكنت كلما افتقدت صديقي إما ساجدًا وجدته، وإما زائرًا نقطة الحرس، ولسانه في تلك الليلة لم يعف ذكرَ الزهراءِ (ع)؛ بها يقوم ويقعد، وبها يعطي تعليماته. طلبت منه أن يخلد للراحة تلك الليلة، فلسنا ندري ما يحمله إلينا الصباح من مفاجآت. ضحك: مفكرني ختيار؟.
- سيد الشباب والله. ولكن أرحْ نفسك، فأمامنا عمل كبير، ويبدو أن الحظ لعب لعبته معنا ... يتبع (الحلقة الأخيرة)

27-حزيران-2014

تعليقات الزوار

استبيان