المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

الخروج إلى المخيم (9): كمين الفرن


الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد


بعدما حوصرنا في قلب مخيم جنين، وحين جرت المحاولة الأولى للاقتحام ليلا على غير العادة، فجأة اختفى صوت الدبابات من الشارع المؤدي إلى وسط المخيم. قلت لمن معي: ابقوا هنا، سأذهب وأستطلع مدخل الزقاق من جهة الشرق. كان علي أن أدخل فرنا موجودا هناك وأتعامل مع ظلامه المضاعف فوق سواد الليل، وذلك دون استعمال أية وسيلة إنارة لأنها بالتأكيد ستفضح أمري، بل إن نار السيجارة كان يُرى من مسافة بعيدة.
كان تحركي (والكلام للأسير ثابت مرداوي)، في عتمة المكان يعتمد على خريطته المرسومة في الدماغ والمحفوظة غيبا، وذلك حتى لا أصطدم بالعمود الإسمنتي القائم على بعد أربعة أمتار من حيث دخلت، أو أسقط في حفرة الماتور (الديزل) الواقع على يمين العمود مباشرة. أيضا علي ألا أتعرقل بالعتبة الموجودة بين الفرن ومطبخها، أو أي شيء من صواني الفرن وكراسيه وأدواته الكثيرة. في مثل هذه الحالات لا مجال للخطأ، فالخطأ الأول هو الأخير.


الشهيد محمود طوالبة والأسير ثابت المرداوي

وصلت نهاية الفرن. لا وجود لجنود الاحتلال فيه، لكنني كنت أسمع أصواتا عبرية قادمة من الزقاق شرقا. دخلت مطبخ الفرن الواقع في زاويته الجنوبية الشرقية. اقتربت وتوقفت بمحاذاة نافذته لأرى مجموعة من الجنود تقف على مدخل المنزل المقابل، وهو منزل صغير يفصلني عن الشارع، والمسافة ما بيننا قريبة جدا.
ما أثار انتباهي أن هذه المجموعة كانت حالتها توحي بالاطمئنان حتى إنها فتحت باب المنزل حيث تقف على مصراعيه، وكان المزاح والضحك باديا في حديث عناصرها. تعجبت من ذلك وأقسمت إن من أرسل هذه المجموعة لم يقل لها إلى أين هي ذاهبة، وما هي حجم الأخطار التي تواجهها. كأن هناك تبديلا للفرق حتى لا تعلم كل واحدة ما حدث لمن قبلها. هذه الحادثة جعلتني أتأكد من صحة الأنباء التي كانت تصلنا ومفادها أن قيادة جيش الاحتلال كانت تخرج المجموعات التي تصاب وتضرب من أرض المعركة وتأتي بأخرى وتمنع الاتصال بينها حفاظا على الروح المعنوية للجنود.
مع قرب المسافة ليس هناك ما هو أسهل من أن تضع رصاصك حيث تريد، وحيث يريد من أرادت إرادته لنا ما نريد. أيضا ليس أفضل من الوجوه والأعناق هدف. لقد حقق الله سبحانه وتعالى أمنية ورغبة لأنتقم لدم الشهيد محمد ياسين*.
بضع ثوان وكانت جميع رصاصات مشط بندقيتي خارجه ليرتمي جميع الجنود أرضا: من أصيب منهم أو من فعل ذلك تفاديا للرصاص. كانت متعة المشهد حيث الجنود المطروحون أرضا ومن بقي عنده المقدرة على الصراخ يستغيث ويستجدي. بقيت أطلق الرصاص إلى أن استقرت أقسام بندقيتي إلى الخلف معلنة نفاد الذخيرة. اختبأت قليلا لكنهم لم يردوا بطلقة واحدة.


الشهيدان محمود طوالبة وطه الزبيدي والأسير المرداوي

ظننت أنهم أدركوا أني اختبأت وأن الرصاص لا يمكن أن يخترق الجدار، لذا لا بد أن يستخدموا ضدي صاروخا، وبالتأكيد الآن يحددون مكاني بالأشعة اللعينة التي ستكشف مكاني وسيصلني منهم شيء ما يبعثر أشلائي في أرجاء الفرن، وسيسقط بعضها في حفرة الديزل أو ربما في التنور، ثم يأتي أبو حسين ليوقد ناره وهو لا يعلم أن جزءا مني يقبع فيه.
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ملعون أبو هيك تفكير". سرت في جسدي رعشة خوف ومرت دقيقة دهرية على انتظاري ولم يصلني شيء سوى أصوات صراخ الجنود الصهاينة وبكائهم. نهضت مسرعا بعدما استبدلت المخزن وأطلقت الرصاص اتجاههم. هذه المرة تجرأوا وأطلقوا رصاصات عدة، لكنها كانت عشوائية ومن وضعية الاستلقاء أرضا التي كانوا عليها. اختبأت ثانية وجلست خلف جدار النافذة منتشيا بسماع صراخهم. سمعت أحدهم يقول على جهاز الإرسال إنهم تعرضوا لهجوم وإن بينهم إصابات خطيرة. بعد أن اعتُقلت قال لي أحد ضباط المخابرات الصهيونية خلال التحقيق إنه قُتل في هذا الحادث ثلاثة جنود وأصيب أربعة آخرون.
الشهيد طه الزبيدي والمقاومون الذين كانوا معي ويقفون على مدخل الفرن الغربي راحوا يصرخون وينادون علي عندما سمعوا صوت الرصاص، ظانين أن ما سمعوه هو رصاص الصهاينة باتجاهي. همست في أذن عبد الهادي الذي وصلني مباشرة أن يذهب ويخبرهم بما جرى.
بقيت تحت النافذة أستمع لما يدور عند الجنود الصهاينة، وكانوا في هذه اللحظات قد توقفوا عن الصراخ واستعاضوا عنه بالنداء وطلب النجدة. كانوا كل دقيقة يرسلون نداء استغاثة ويستفسرون عن المدد والعون أين صار. كان قربي منهم لدرجة أني سمعت حشرجة روح أحدهم وهي تخرج من جسده الهالك.
استمر انتظار جنود الاحتلال سبع عشرة دقيقة حتى وصلتهم طواقم الإنقاذ والاسعاف. كنت معنيا بمعرفة الزمن الذي تحتاج إليه هذه الطواقم للوصول في مثل هذه الحالات. البقية القليلة من الصهاينة الذين لم يطلهم الرصاص وعاشوا في حالة ذعر وخوف شديدين أرادوا الخروج من المنزل، لكن قائد الفرقة التي جاءت لإخلاء المصابين رفض طلبهم بشدة وأصر على بقائهم في المنزل حيث هم، وحاول إقناعهم بأنهم إذا تحصنوا جيدا داخل المنزل، فلن يلحق بهم أذى ووعدهم بأنه سيرسل إليهم مجموعة إسناد.
تخيلت أن جدالهم ربما يتطور إلى عراك بالأيدي، لكن ما كان منهم (أي الجنود) بعد ذهاب فرقة الإنقاذ إلا أن كالوا الشتائم السوقية لشارون وموفاز وبن اليعازر وراحوا يصرخون قائلين: "لا نريد أن نموت، نريد أن نعود إلى بيوتنا وأمهاتنا!"... يتبع.
__________
* أسد السرايا "محمد ياسين"
محمد صالح ياسين، صقر جهادي استشهد إثر معركة بطولية استمرت ثلاث ساعات ضد الوحدات الخاصة الصهيونية التي حاصرته في منزل في قرية "سيريس"، بمساعدة وإسناد من الدبابات والمروحيات العسكرية. بعد حوالي ساعة من بدء المعركة أصيب القائد محمد بأكثر من رصاصة في كتفه اليسرى فشلت يده عن العمل لكنه تحامل على جراحه وظل يقاوم باليمنى. أسند جزءا من اليسرى إلى عنقه، معلقا عليها حزام بندقيته (m16)، وراح يطلق النار. البندقية الأوتوماتكية عندما تنفد الذخيرة من مخزنها فإن أقسامها (كتلة الترباس) تبقى راجعة إلى الخلف ولا تعود إلى وضعها الطبيعي إلا إذا سحبتها مرة أخرى، أو استبدلت مخزنا مليئا بالفارغ.
اضطر إلى القتال بيد واحدة. كان يضغط ويمينه ممسكة بمقبض بندقيته وإصبع السبابة على زر إخراج المخزن فيخرج جانبا باتجاه الأرض محدثا قرقعة يحجبها عن الأسماع صوت الرصاص المجنون، ثم يفلت من يمينه مقبض بندقيته المعلقة برقبته، ويمسك مشط الذخيرة الجديد ويضعه في مكانه ضاغطا عليه بعد أن يسند ظهر بندقيته إلى بطنه.
محمد كان يقول دائما: إذا أردت أن يدخل مشط الذخيرة في مكانه بيسر وسهولة اجعله ناقصا رصاصة واحدة عن العدد الإجمالي لاستيعابه. يضغط مرة ثانية وثالثة وعاشرة وما زال صوت الرصاص يصيب ويقتل الكثير منهم. هذا ما أكده سكان المنازل القريبة ودلت عليه طائرة النقل العمودية التي حضرت لإخلاء القتلى والمصابين، وأيضا الدم ومواد الإسعاف الأولي التي وجدت حيث جنود الاحتلال.
تحين نهاية الدم المتدفق من الجسد عبر ساعتين من الزمن والجهد المبذول أثناء المعركة، ما جعل جسد ياسين يتوق إلى احتضان الأرض. رصاصة كريهة استقرت في أعلى الصدر حسمت الموقف لمصلحة رغبة الروح.
صاحب المنزل شاهد ما حدث، وكان مصابا أيضا برصاصة كسرت فكه وشرمت لسانه. أراد أن ينزل قدم محمد عن الأخرى ويجعلهما جنبا إلى جنب، ويريح الصدر من ثقل اليد بوضعها جانب الجسد. قال له محمد: دعني كما أنا، لكن ضع يدي اليسرى على صدري، فأنا أحب أن أستشهد وأنا على هذه الوضعية. صمت قليلا ثم أردف الحمد لله الذي أعطاني الشهادة، وكان هذا آخر ما تلفظ به أسد السرايا.
بعد استشهاده لم يجرؤ الجنود على التقدم، بل دفعوا بالكلاب لتتأكد أن لا حركة في المنزل، وأخيرا حسم الموقف بأن دفعوا أحدهم بالقوة إلى الداخل وهو في حالة جنون هستيرية يصرخ ويطلق الرصاص في كل الاتجاهات. اقتربوا من الفارس. تأكدوا من أنه ميت. لكن هذا الأسد أثقلهم بالجراح حيا وكلفهم ثمنا باهظا حتى وصلوا إليه هكذا.
بسبب نقص بل افتقاد الأخلاق والقيم العسكرية، وضع أحدهم سلاحه مباشرة على منتصف الوجه الأيسر بمحاذاة الأنف، وأطلق رصاصة بغيضة خرجت من خلف الرأس الطاهر ساحبة معها جزءا من محتواه. أرادوا بذلك التعبير عن حقد بغيض لا ينتهي.

06-آب-2014

تعليقات الزوار

استبيان