المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

خياميات (3): تفاحة في "السطل"! - جلال شريم.




تنفّس المعتقلون الصعداء عندما علموا بالتغيّرات الجديدة التي ستطرأ على واقعهم في الايام المقبلة. كانت فاتحة عهد جديد بحق. قال فؤاد: "لا أصدق ما أسمع! لعلني أحلم". أجابه ناصر: "ربنا كبير يا أخي... ارادتنا أقوى، وصمودنا أجبرهم على ذلك". قاطعه فؤاد: "هل تذكر تلك الملعونة التي اخبرتك عنها؟". "ماذا تقصد؟"، أجاب ناصر بسؤال. تبسم فؤاد وتابع: "علبة السردين الملعونة التي حدثتكم عنها منذ فترة". سأل الباقون: "وما قصتها هذه؟". أجاب فؤاد بلا توقف: "تعرضت منذ فترة لعارض صحي خطير، فنقلوني الى مستشفى مرجعيون، حيث أشار الطبيب على العملاء السجانين بضرورة أن اتحرك وأمشي كجزء من العلاج، فاضطروا إلى تعييني في الكلفة(*). وصرت أوزع الطعام على الزنازين.
مرة فتحت مجموعة من علب السردين المكتوب عليها باللغة العبرية، ولم أفهم بالضبط معنى الكتابة، ولكنني قرأت تاريخ (1982) ولم أدرِ أهو تاريخ الصنع أم تاريخ انتهاء الصلاحية. وعندها أحسست أن الظلام يلف أفاق ناظري – يأسًا - فوق ظلام المعتقل. عندما دخلت الى زنزانتي رأيت نفسي ملزمًا بأكل ما في الصحن من السردين. لم يكن أمامي من خيار ثانٍ". سكت فؤاد هنيهة، عم الصمت الزنزانة، ثم استأنف كلامه وقال: " الطعام كان يأتي من مستودعات جيش العدو، وهو طعام صهيوني مخزّن لفترات طويلة، غالبيته من المعلبات التي أكل الدهر عليها وشرب". تبسّم ناصر وقال: "أبشرْ...هذه المرحلة ستولّي إلى غير رجعة مع "إيلي"(**)ن الذي سيحل محله ادارة من العملاء (اللبنانيين). سيولّي أكل الصهاينة معهم وسيتم استبداله بأكل طازج من السوق اللبناني". قاطعه فؤاد: "آمل أن تكون وعودهم صحيحة!". تابع ناصر: "طبعًا صحيحة، لا مجال للتراجع أبدًا، لقد صمد الجميع عندما نفّذنا الإضراب عن الطعام. ألم تسمع الضابط الإسرائيلي كيف كان يترجانا أن نفك الاعتصام، وأن نقبل بإدخال الطعام إلى الزنازين، مع وعده لنا بأن تتم دراسة مطالبنا في وقت لاحق؟ ألا تذكر، يا أخي، كيف وقفنا وقفة رجل واحد ورفضنا ذلك وثبتنا على مواقفنا، حتى تنازل العدو ووافق على جل مطالبنا؟ لذلك فإن التنفيذ سيبدأ في غضون يومين فقط". تنهد الجميع وقالوا: "نأمل ذلك".


مطبخ ...


 بعد مضي يومين علا صوت واحد من "الكلفة" مناديًا في ممر المعتقل أن "جهزوا أوعيتكم، جاء طعام الغداء". لم تصدّق العيون الأسيرة أن ما يرونه في "الأوعية" والأطباق هو طبخة "المجدرة اللبنانية"، وإلى جانبها طبق من سلطة الملفوف مع البندورة. كاد صوابهم يطير. تسللت همساتهم من بين الجدران، وعلت ضحكات الانتصار أبعد من جدران المعتقل، وأقوى من ظلام الزنازين. لم تكد أيدي المعتقلين تستلم هذا الطعام "البلدي الوطني اللبناني" حتى جاء واحد من "الكلفة" يحمل وعاءً كبيرًا وهو ينادي: "حبة واحدة للشخص". تسابقوا نحو الباب، نظروا من بين الشبك، رأوا ما لم يشاهدوه طيلة سنوات اعتقالهم المريرة، وما لم يخطر على بالهم، ولو في الاحلام، داخل هذا المعتقل "المقبرة": إنه التفاح! كان عناصر "الكلفة" يوزعون التفاح على المعتقلين. أمسك فؤاد تفاحته نظر إليها نظرة العاشق الذي التقى معشوقته بعد طول انقطاع، تنشق ريحها، تحسس نعومتها، أترع عينيه بلونها الاحمر المتداخل مع بقايا اللون الاخضر الآفل تحت سطوة شقيقه. لم يصدق كل ذلك، تطلع صوب رفقاء المحبس، وجدهم على حال يشبه حاله. تقدم خطوة ناحية ناصر لوّح بتفاحته، قابله ناصر بواحدة مثلها وعلا صوت ضحكاتهم. همس فؤاد: "انا مشتاقٌ حد الجنون الى "المجدرة"، لكنني سوف التهم هذه "الجوهرة" قبل الغداء". تقدم مصحوبًا بضحكاتهم ناحية "السطل"(الدلو ***)، رفع غطاءه، أمسك إبريق الماء كي يغسل "كنزه" ويجهزه للالتهام. وطالما أنه لم يمسك بيديه تفاحة منذ حوالي ثلاث سنوات، فإنه نسي كيفية التعامل مع "المجوهرات"، لذلك انزلقت من بين يديه و... سقطت في الدلو بين القاذورات!.


... حمام!!!

"بحلق" فؤاد في تفاحته الطافية عند سطح "الماء"، رمق زملاءه بطرف عينه، رآهم ينظرون اليه نظرات عصية على الفهم، مترقبين ردة فعله. طافت بخاطره، في تلك الهنيهات، أطياف المرحلة المنصرمة القذرة بقاذورات مخازن جيش العدو وعلبة السردين الملعونة. تراءى أمام عينيه طيف "ياغي" و"ايْليْ"، ولحظات الجوع الأبدية، وسويعات الإضراب عن الطعام مغمسة بوعود الضابط الصهيوني...لحظات الانتصار.. أمال المرحلة الجديدة... كان السحر في التفاحة البلدية أقوى من كل شيء...انتزعها انتزاع النسر طريدته من بين الأشواك. غسلها بماء الشرب مرات عدة، ثم التهمها وسط ضحكات أقرانه النابعة من القلب، وهو يتمتم: "كما كانت أمي تقول: زوان بلادي ولا قمح الصليبي".


(*) الكلفة: هم مجموعة من المعتقلين توكل إليهم مهمة توزيع الطعام على الزنازين، غالبيتهم من العملاء المرضي عنهم، وقلة منهم من المرضى الذين يوصي الأطباء بضرورة تحركهم لدواعٍ صحية.
(**) إيلي: الضابط الصهيوني الأخير الذي كان يشرف على المعتقل بشكل يومي ومباشر.
(***) الدلو أو السطل: وعاء بلاستيكي بديل عن الحمام داخل الزنزانة، وكان المعتقلون يفرغون محتوياته كل يوم في الحمام المركزي.



18-آب-2014

تعليقات الزوار

استبيان