المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رائحة القصعين (7) – هادي قبيسي





محور جزين: نفذت فيه المقاومة العديد من العمليات النوعية

... شيئًا فشيئًا انسل الضياء وراحت غيوم أيلول تلبد ملامح الأفق، ولما تلاشى ما تبقى من الضياء كانت القُرب قد فرغت. وقد حدثتني نفسي بأن نواصل الرصد أثناء الليل لعلنا نكتب شيئًا على دفتر الرصد. حملت المنظار وركزت نظري على المنزل الذي ظل غارقًا في الظلام، فرحت أرنو إلى الشارع الذي أضاءته الأنوار المعلقة على أعمدة الكهرباء، كان خاليًا تمامًا. مرت ساعة في ذلك الصمت المطبق، ولم يعكر الجو سوى بعض الأنسام التي ذكَّرت شجيرات البلوط بحفيفها. ظللت أقلب المنظار بين فوانيس الشارع التي انعكست على جدران المنازل فصارت أشبه بجوانب تنّور وسط الليل، وكنت أحدق في الممرات الضيقة بين المنازل، ثم أعود لأراقب المنزل المقصود. ما من نتيجة. وضعت المنظار جانبًا وتوسدت حقيبة الظهر، وضعت البندقية الباردة إلى جانبي بشكل مهيأ لإطلاق النار إذا حصلت أية مفاجأة، فنحن في الشريط الحدودي، إن لم نكن قد تعمقنا كثيرًا،. وما لبثنا أن غصنا في نوم عميق.
أفقت على قرقعة أحجار وكانت الأشجار التي تهزها الريح تصدر صوتًا مبهمًا في الظلام. تناولت البندقية، ووجهتها باتجاه الصوت. استمرت القرقعة، استيقظ أبو صالح وشرع ينصت، نظرت إليه فقال:
-لن يأتي عملاء لحد الجبناء إلى هنا.
-ربما كانوا من اليهود.
-لا تقلق، ربما هي بعض الخنازير.
لم أستطع أن أتأكد من مصدر الصوت وسط عتمة الليل، وظلت سبابتي على الزناد حتى سمعت صوت الخنزير، فعدت إلى النوم من جديد.
عند إطلالة الشمس سمعنا بعض الجلبة في القرية، كانت بعض السيارات تذرع شوارعها ذهابًا وإيابًا. سمعنا صياح بعض الديكة وثغاء خراف. حملت المنظار على عجل وحدقت بالمنزل. بحثت في زوايا القرية وثناياها، ثم عدت إلى المنزل ودققت النظر بين أشجار حديقته. بدا كل شيء ساكنًا. لساعات طويلة ساد فيها العطش، حاولنا العودة بحصيلة من المعلومات، مهما خف قدرها، دون جدوى. صلينا الظهر بين الأعشاب، وتناولنا طعام الغداء. عند العصر تولى أبو صالح الرصد، تمددت على الدرع وألقيت جانبي الخوذة الحديدية، ولجأت إلى كتبي أقرأ تارة، وألاحق بناظري العصافير المتنقلة، بين الأغصان تارة أخرى.
كانت الشمس تطل بين الفينة والأخرى من خلال السحاب، فيندلق النور من ثنايا الأشجار دافئًا يثير النعاس. كان الهدوء يحرر خيالي فأجول بين الكلمات مطلقًا العنان لأفكاري. كان كتاب العدالة مبعث التساؤلات التي لا تنتهي، وكان يبدو لي في تلك الأيام كبحر لا يدرك له قعر، فكنت أقرأ من دون توقف إلا أنني لم ألمس القعر أبدًا. أما ذلك الكتاب العذب الذي لا تدري لم تستأنس بآياته، فكنت أتحير أمامه كأنني أمام حكيم لا حد لجلالته يلقنني شيئًا ما عن الحياة، إلا أنني لم أكن أفهم دومًا ما يقول.
أتى طائر "أبو الحن" فتركت الكتاب ورميت له ببعض الخبز. وبين الفينة والأخرى رحت أرقب مسير النمل التي تذرع غصن الشجرة إزائي. وبين هذا وذاك أطلت صورة الغروب فشردت عن القراءة، وجعلت أتأمل أطراف الغيوم التي طرزتها الشمس الغارقة خلفها بخيط ذهبي.
لقد قال محسن: "صرنا نفكر بالعودة". كانوا قد مكثوا عشرين يومًا في كمين في عمق الشريط الحدودي، ينامون في النهار ويستيقظون طوال الليل، حقًا إن التفكير بالرجوع أمر صعب جدًا، أو لعل البقاء أصعب. نعم، إن البقاء أصعب، تصبح الدنيا تراكم ساعات انتظار.
-هيا يا علي، لنتهيأ للعودة.
كان دفتر الرصد لا يزال خاويًا. بدأ أبو صالح يوضب المنظار والخوذ والدروع تحت الملاءات البلاستيكية، وفوق تلك الملاءات وزع كسرات من أغصان البلوط للتمويه، وضع ما تبقى من أغراضه في حقيبة الظهر ووضعت كتبي الغامضة والقرب الفارغة في الحقيبة الأخرى. حملنا السلاح وتفقدنا عتلات الأمان، وارتدينا الجعب ووضعنا الحقائب التي غدت خفيفة بعد أن أفرغنا ما فيها من طعام وشراب. مع إطلالة الظلام شرعنا نذرع غابة البلوط باحثين عن الجرن الذي لم نتأخر في العثور عليه، ورحنا نحث السير بحملنا الخفيف، وحيث تحركت قدمانا كانت تلامس نباتات القصعين البرية، فتثير رائحة تشرح الرئتين وتذكرك بأنك لا تزال على أرض الجنوب.
وصلنا الطريق المعبد المؤدي إلى المنشآت، وما كدنا نطأ أرضه الملساء حتى سمعنا هدير سيارة قادمة من بعيد، بسرعة قفزنا جانبًا واختبأنا بين أعشاب الطيون الفائحة العطر. مرت السيارة وراقبناها خشية أن تكون سيارة دورية لجنود العدو. ثم رأيناها تمضي مسرعة حتى غابت عن أنظارنا. تابعنا المسير نزولًا نحو الوادي، متفادين الطريق المعبد لئلا تصادفنا سيارات أخرى. وحسنًا فعلنا إذ كانت حركة المرور كثيفة ساعة الغروب. عندما وصلنا تلة المنشآت، أسرعنا المشي لنقطع خط الأفق المكشوف للطريق المحاذية، ووصلنا إلى بداية انحدار التلة، كانت تلك الجهة التي وصلنا إليها مختلفة عن التي أتينا منها قبل ثلاثة أيام: الأعشاب والأشواك التي تغطي الأرض تخبئ تحتها الحفر والانزلاقات والصخور. كان الانحدار الشديد يسمح برؤية الأشجار تعانق النهر في الأسفل، وعلى امتداد الأفق كان الغروب ينشر إزاره المائل إلى الحمرة.
هرولنا نزولًا لنقطع منطقة الخطر، خصوصًا وأن المساء لم يلملم بعد أشتات النهار. كنا عرضة للانكشاف من المواقع المطلة على المنطقة. وبين العَدْوِ واللّهاث وصلنا النهر. وضعت بندقيتي حقيبتي بين أشجار الحور ونباتات العليق. تمددت على بطني، غمست رأسي في المياه ورحت أشرب وأشرب حتى الثمالة. ثم استلقيت على ظهري، ووضعت رأسي بين كفي. أرحت قدميَّ وأطلقت لأنفاسي العنان. أما رفيقي فلم يشرب كثيرًا لأن ذلك أدعى لتسهيل المشي، استراح قليلًا ومضى يجهز نفسه. وبعد أن خمد اللهاث عاودنا المسير، فتشنا عن المطحنة يسارًا ويمينًا لم نجدها. غرق الوادي في ظلام كلي. صار البحث أمرًا متعذرًا. وعندما حاولنا إضاءة البطارية تبين بأنها محترقة. في الأيام التي قضيناها في تلة الصنوبر، مرت ساعات الملل طويلة، فكنت خلال إحداها قد فككت البطارية، واكتشفت أنها مزودة بقطع غيار.
قلت لأبي صالح:
-    أنا أصلحها.
-    كيف ستصلحها؟
-    فيها قطع غيار جاهزة.
وتحت عتمة الليل، فتحت البطارية وأخرجت قطع الغيار وأصلحتها. أصبح من الممكن العثور على مواطئ الأقدام وسط تشابك حبال العليق البري والأشجار الكثيفة المتراصة على ضفتي مجرى المياه، الذي أخذ يغور في العمق في تلك الناحية. ولما أضاءت البطارية ما حولنا بدا عرض ضفة النهر مضاعفًا عما رأيناه في المرة السابقة. إنها منطقة مختلفة تمامًا. فرحنا نبحث عن طريق جديد... يتبع حلقة 8 - الأخيرة

05-أيلول-2014

تعليقات الزوار

استبيان