المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

الخروج إلى المخيم (12): شهيد الشرق



الأسير الفلسطيني ثابت مرداوي
تحرير: عبد الرحمن وليد




الشهيد طه الزبيدي

تمركزنا في بيت يطل على حديقة. تعجبنا من صوت أطفال يلعبون هناك. أصر الشهيد طه الزبيدي أن يذهب شرقا، علمًا أن لي صلة قرابة قوية به، يروي الأسير ثابت مرداوي.
لم يكن إصرار طه على الذهاب شرقا مفهوما، كما لم يكن منطقيا وفق ما يمليه علينا الموقف في مخيم جنين المدمر والمقطع، لأننا لا نستطيع التوسع، فعددنا غير كاف لتغطية أي انتشار إضافي.
مع اقتناعه بهذه المبررات، كان الزبيدي مدفوعا برغبة جامحة جعلته يعاكس منطق الموقف. لم يوافق أحد على رأيه، فظل واقفا على باب الغرفة أسفل المنزل وعيناه اتجاه الشرق لا تلتفتان إلى شيء آخر. دخلت إلى الغرفة وبقي طه واقفا حيث هو وعيناه صوب الشرق. وجدنا صندوقا مليئا بعلب تحتوي حليبا جاهزا. فرحتنا بالعثور على كمية الحليب كانت لا توصف، فهذه الكمية تأتي في الوقت الذي راح فيه الجوع يؤثر علينا ويضعف قوتنا.
لم يتفاعل طه مع علب الحليب حين رآها بين يديه لطرفة عين، قبل أن يعيد نظره إلى البوابة شرقا. لم أفهم سبب حالته. ثانية واحدة وسمعت صوت رصاصة. رصاصة واحدة فقط. لكن صوتها كان مختلفا. ما شدنا بعيدا عن ذلك الصوت أننا لمحنا جنودا في حديقة المنزل، فرحنا نطلق الرصاص ودار اشتباك عنيف بيننا. كان همنا وخوفنا الأكبر على الإخوة الذين هم في الغرفة الأرضية السفلى لأنهم محاصرون فيها.

قنابل دائرية
أخذ الجنود يلقون علينا داخل المنزل قنابل يدوية سوداء اللون، وكانت مستديرة الشكل، وهي المرة الاولى التي أرى فيها هذا النوع من القنابل. لحظة رؤيتي لها تتدحرج داخل المنزل أدركت أن نهايتنا قد حانت. لكن أحد المقاومين (أ.أ) قرأ ما يجول في خاطري وقال لي "لا تقلق، أنت واصل إطلاق النار وأنا سأتولى أمرها". راح يمسك كل قنبلة تسقط عندنا بيده ويقذفها عبر النافذة باتجاه الجنود، وقد رأيته فعل ذلك ثلاث مرات، ما جعلني أطمئن نوعا ما، وأشعر أن هناك مجالا للإفلات وإنقاذ الأخوة الآخرين.
من كثافة النيران أدركنا أن عدد الجنود كبير وأنهم يحملون أسلحة رشاشة من نوع ثقيل، لأن جدران المنزل المبنية من طوب لم تعتد تحتمل ضغط الرصاص عليها. لو تأخرنا دقيقة واحدة في الخروج من المنزل بعد كسر الباب الحديدي لكان مصيرنا الموت. كل ما أذكره أني رأيت الأخ (س.غ) يمسك قضبان الحديد بيده ويحاول خلعها، ومثله فعلت لأساعده فإذا ببعض القضبان تفلت من مكانها وتخرج بأيدينا كأنها من بلاستيك وليس من الحديد!
خرج أحد الشباب (ح.أ) وهو الذي ظننا أن الرصاصة الأولى في بداية المعركة قد أصابته. كان يحمل بيديه بندقيتين. بعد أن خرج انتظرت  طه الزبيدي. صرخت أين طه؟، وأنا أحاول إقناع نفسي بأي شيء آخر سوى أنه استشهد. لقد أصابته رصاصة قناص كانت هي بداية تلك المعركة. ليس هذا فحسب بل ألقوا عليه قنبلة حارقة أصابته مباشرة. تبعها عدة قنابل حارقة أخرى راحت تلتهم الغرفة وبدأت نيرانها تتصاعد من النافذة.
لا أنسى ذلك الشعور بالعجز المطلق. طه يستشهد والنيران تفعل بجسده ما تفعل ونحن واقفون لا نقدر على شيء. استشهد الزبيدي وأعطانا سر هذا الصفاء. بعد لحظات أدركت حالة الغرابة والغموض التي عاشها في ساعاته الأخيرة، بل علمت لماذا كان يوصي بإصرار على الذهاب إلى جهة الشرق.

الجرافات مجددا
لم يدخل الجنود الصهاينة المنزل لأن النيران كانت تلتهمه، فانتشروا في حديقته، وخضنا معهم اشتباكا استمر لمدة ساعتين استقدموا خلالها تعزيزات إضافية لتثبيت موقعهم. في المقابل انضم إلينا العديد من المقاتلين، ما جعل الاشتباك يتحول إلى معركة طاحنة خاصة بعد دخول طائراتهم. مع ذلك اضطروا إلى الانسحاب وترك الموقع.
بعد الاشتباك صار عمل الجرافات أكثر شراسة وهمجية من قبل. لكن الأخطر أننا بدأنا مرحلة كسر العظم، فقد صارت الذخيرة تنفد، وهو ما بدأ منذ اليوم الخامس، إضافة إلى خروج عدد من المقاومين بعيدا عن المخيم، واعتقال القوات الصهيونية لهم.
هنا لا مجال لوضع اللوم على أحد أو محاسبته، لكنني أشير إلى السلبيات التي ترتبت على خروج أولئك، ومنها إعطاء الأمل للاحتلال في إمكانية حسم المعركة والقضاء على المقاومة في المخيم، كذلك فتح مجالا لخلق البلبلة وانتشار الشائعات.
في مساء اليوم الذي استشهد فيه طه، رأينا مجموعة من أهالي المخيم ومعهم بعض المقاتلين تخرج باتجاه الجنود. كان خروج النساء والأطفال والشيوخ أمرا طبيعيا، بل كنا نطلب منهم ذلك، لكننا حاولنا ثني بعض المقاتلين عن قرارهم وحثهم على الصبر والتريث، لعل الله سبحانه وتعالى يحدث بعد ذلك مخرجا كريما مشرفا... يتبع

17-تشرين الأول-2014

تعليقات الزوار

استبيان