المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

يوميات أم الشهيد - زهراء جوني




عن أم الشهيد علي الهادي نون*


الليل يقترب من السماء. بعض الضوء الأحمر يتسلل إلى المكان من ثقب النهار المفتوح بين غيمتين. إنها السابعة مساءً وصوت دافئ يقدّم للصلاة ببعض آيات من القرآن.
الضوء لا يزال خفيفًا. ينقسم وجهها بين الظلمة والنور، كأنها القمر الذي ينتظر اكتمال الضوء من وجه آخر.
هي قادمة إلى ذلك الوجه الآخر، كعادتها كل مساء، تحمل بيدها "كيس الورق" نفسه، والأغراض نفسها. تقترب منه، تلقي عليه السلام وتقبّله قبلتين ودمعتين. تفرش الأرض بالشموع، تُبدّل الموت بالحياة، ترمي ما بذلته الشمعة في الليل الماضي، وتملأ قواعد الضوء بشموع جديدة. ترسم وجهه على مكان يعلو جسده بقليل، كأنّ عينيه تدمعان نورًا فيتوضأ ويستعد للصلاة.
يُكبّر المؤذن: حيّ على الجهاد. تستأذنه للصلاة.  تصعد إلى السطح الذي يكشف وجهه على مقربة من السماء. لطالما تمنت أن تعيش في أماكن مفتوحة، لا يفصل بينها وبين السماء سقف أو جدار. ترفع يديها إلى الأعلى، تهمس بالدعاء، تخاطب الله بابتسامة الشوق والرضا: "نحن لبينا الجهاد إلهي، وقدمنا أولادنا شهداء".
إنها الثامنة: ساعة على لقاء المساء. تجلس على قدميها، تتربّع أمام ضريحه المغطى بابتساماته الكثيرة. حرصت على رسمها بالكثير من الصور المنسّقة داخل إطارات خشبيّة مزخرفة. تأخذ من كيس الورق بعض المناديل، وتبدأ بتلميع الإطارات، مع أنها تلمع من بريق عينيه. مَهمّة اعتادت عليها كل يوم منذ عام.            
في كل صورة حكاية. تتأمل وجهه، وفي وجهها ألف سؤال وألف غصّة. كلما مرّرت منديلها فوق وجهه تشعر كأنها تلمسه، تشعر بحرارته. تقبّله، ثم تعيد ترتيب الزمن فوق ضريحه، صورة قرب صورة.


إنها ليلة الجمعة. دقائق وتزدحم روضة الشهداء بالزوار. يختارون مشاركة الشهداء بالدعاء. يختارون مكانًا يحبّه الله.
تريد أن تنفرد بولدها قبل الازدحام. تقترب منه أكثر، تهمس إليه، تعتذر لأنها تأخرت خمس دقائق عن لقائه، تشعر بدمعٍ في عينيها، تدير وجهها عنه حتى لا يراها، ثم تضع رأسها فوق ضريحه:  " يا ولدي، قدّمتُ بندقيتك إلى أخيك الصغير، ودعوت له بالشهادة؛ لو رأيته كيف يبدو في بدلتك الزيتية، يشبهك كثيرًا، يذكرني بك، كأنك ما زلت في ساحات الجهاد.  لا تقلق يا ولدي، جواد سيكمل الطريق كما يكملها اليوم كل المقاومين في الميادين.
بالأمس أخبرني والدك كيف صار الناس يقدروننا أكثر لأننا أهل الشهيد، لو تعلم، يا " أبا صالح" يا ولدي، كم أشعر بالفخر كلما ناداني أحدهم: أم الشهيدز كيف لي أن أكرمك على هذا اللقب؟ تراني أصير أم الشهداء وأواسي زينب والزهراء؟
أبا صالح، يسألني عنك الكثيرون، بعضهم لم يعرفك قبل استشهادك، لكنهم تعلّقوا بك وأنت تترك لهم ابتساماتك في كل مكان. بعضهم لا يفارق ضريحك ولا يتوقف عن الدعاء. كل هذا الحبّ لك يا ولدي".
ترفع رأسها بعدما كثرت الأصوات من حولها، المكان يزدحم بالقادمين لزيارة الشهداء. تنشغل بتلقّي السلام والتهنئة، كل النسوة يقبّلن أم الشهيد، الكلّ  يسألها الدعاء. تبتسم لكل هذا الحبّ، ثم تمسك بيديها جوانب الضريح، كمن يحجز مكانًا قرب الشهيد، قبل أن يُسارع الناس إلى الجلوس قرب الأضرحة والتبرّك من الشهداء.
"اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء...". يبدأ صوتٌ، يخترق كلّ أجزاء الجسد من دون استئذان، بقراءة دعاء كميل. ترتدي نظّارتها. تضع أمامها صورة لوجهه الذي يغرق بالضحك. تفتح بين يديها مفاتيح الجنان، تنظر إليه، وتشاركه الدعاء...


*الشهيد علي الهادي بهاء نون "ابو صالح برجي" -  مواليد جبيل 04/10/1991 - استشهد بتاريخ 09/12/2013.


23-تشرين الثاني-2014

تعليقات الزوار

استبيان