يرن هاتفي سبع مرات أو أكثر. أدقق النظر إلى المحادثات الواردة، فلا أُعيرها كثير انتباه. المزيد من أسماء الشهداء الذين اختاروا طريق الحق والجهاد. لم يعد الأمر جديدًا. نعلم بأنها الطريق الأجمل والأقرب إلى الله، ونعلم أن شبابنا اختاروا التضحية على الاستسلام، وأن دعاء الأمهات لهم بالشهادة لا يردّه الله.
لم يكن أمر الرسائل الواردة إلى هاتفي مهمًا، إلى أن غاب خيط الضوء في عمق السماء، وحلّ الليل ثقيلًا مع ثقل الصور التي رافقت أسماء الشهداء بعد ساعات. لم أر وجهه مسبقًا. تلك الابتسامة ليست بغريبة. في عينيه نظرة أعرفها. لكنني لا أعرفه أبدًا. أنظر إليه أكثر، أجد في تلك التفاصيل وجه أخي. الشهيد ليس أخي، لكنه يشبهه كثيرًا، حدّ الإسراع إلى سماعة الهاتف والاطمئنان عليه.
أشعر بأنني فقدت شيئًا، كأن ذلك الجزء في داخلي يطلب مني أن أتهيأ، أن أعيش ذلك الشعور بكل تفاصيله، أن أسبق الشهادة واللقب، أن أقلب الصور في ذهني وأبكي كثيرًا، أن أغمر أمي، وأكتب عن والدي الشجاع، أن أحضّر مرثيةً تليق بأغلى شهيد، أن أُسرع في طلب وصيته، لأقرأ الجزء الخاص بي. كل ذلك راودني في لحظات، جاءني من صورة هادئة تشبه وجه أخي.
أستمر في البكاء حتى الصباح. لست حزينة أو خائفة، أنا أحاول اكتشاف ذلك الشعور الممزوج بالفخر والاشتياق. أحدّث صديقتي بما حدث، تلومني على كل ذلك الشعور الذي سمحت له بالتفاعل داخلي: "كيف تفاولين* على أخيك، وترسمين أمامك صور استشهاده؟ كيف تستطيعين أن تحدثي نفسك بالأمر، ولو سرًت؟". لا تتوقف صديقتي عن الكلام والمعاتبة، وأنا لا أرى أمامي وسط كل هذا الضجيج سوى صورة ذلك الشهيد، التي جاءتني فجأة في ذلك الليل الطويل. وما لي ولكلام صديقتي؟ كلنا سنموت في نهاية المطاف، فلنمت بعزة وكرامة، أفضل من الموت العابر الذي لا يترك أثرًا في الدنيا والآخرة. وماذا لو تحققت تلك التخيلات؟ سأفتخر حتمًا بأن أكون من الشهداء وعائلات الشهداء. هذه التخيلات لا يجب أن تبقى في خيالًا.
يمرّ النهار بطيئًا، وأنا أراجع الصورة بين الحين والآخر. تصلني رسالة بموعد عرس الشهيد، أحفظه جيدًا وأصرّ على الوجود في صفوف المشاركين. يُطلّ العريس محمّلًا على الأكتاف. أنظر إلى كل تلك الحشود التي حضرت لتسير في موكب الشهيد، أحاول الاقتراب أكثر، أنظر في وجه والدته، تكاد تضحك بدل أن تكتفي بابتسامة. تحاكي شهيدها بفخر، تترضى عليه دونما توقف. في كل دمعة رضا وابتسامة. تمدّ ذراعها نحو ضريحه، كمن يبحث عن فرصة لعناقه وسط المحبين. تحمل الورد بين كفّيها، كمن يجمع بعض الحياة لتسمع صوته مرة أخيرة قبل الوداع. لا تريد ان تكتفي بكل الحب الذي تركه في وصيته والذكريات. أبكي لكل ذلك الرضا في عينيها، ولكل ذلك الاشتياق الذي بدأ لتوّه يرسم طريقه في معالم وجهها. أصل إلى المثوى الأخير، حيث سيوضع جسد الشهيد المبارك، ليصير مزارًا للمحبين الراغبين في زيارة أحباب الله. يرتفع التكبير، ولا تتوقف النسوة عن الزغاريد في المكان. يقترب والده من جسده، يحمله إلى مثواه ويلقي عليه السلام. وقبل أن يغطيه التراب، أغرس أصابعي بين ترابه الطاهر. أحمل بعضًا منه وأحرص على أن لا ينزلق من بين خلال أصابعي. أغلق عليه يدي الأخرى جيدًا.
أعود إلى المنزل. أفتح صفحتي في العالم الافتراضي. أجد صوره في كل مكان. كأن الجميع يعرف الشهيد جيدًا. يكتبون عنه الكثير من الكلمات، ويرثونه بأجمل الصور والعبارات. هذه إحدى صديقات العالم الافتراضي تضع صورة للشهيد وهو يرفع يديه للصلاة، وهنا صديق آخر يكتب عن آخر محادثة له مع الشهيد. وأنا، مع كل هذا التشابه، لم أعرفه من قبل، ولم يتسن لي أن أعرّفه على شبيهه. تسألني صفحتي كما في كل يوم عن ما يدور في بالي، فأكتب في تلك اللحظات عبارة واحدة: "أين وصية الشهيد علي أبو طعّام؟ أشعر بأنها جميلة بقدر ابتسامته، وأن فيها من حكمة يوسف كما في الشهيد من جماله". كان في بالي تلك اللحظة صورة واحدة تجمع وجه أخي ووجه الشهيد. * كلمة عامية تعني الكلام المتشائم.