فاطمة مراد
«من حرب تموز 2006، من بلدة «الطيري » الجنوبية ....هذه القصة».
الهمسات تنسل من الفجوات بين الحطام، كأنها غدران ألِفَت أصواتَ سعيها النسائمُ، أو شطآن تستريح من عبث أمواجها.
لا يقوى الصوت إلا على الهمس، ولا نقوى إلا على الانتظار، حين يأسرنا بين الأكوام المكدسة من الحجارة العنيدة، التي لا تزحزحها شفقة ولا رحمة على الأجساد المسلوبة القدرة، امام تكاثرها وتكاتفها.
لا أستطيع الحراك كي أقدم العون لـ«زينب »، فأنا أسمعها كيف تتنهد وهي تزيل الحجارة، فحتى أنا نفسي لا أستطيع مساعدتها، فأنا مطمورة حتى الرأس.
أتلمس الحجارة التي كانت يوماً لي، والآن صارت عليّ، وأتساءل:
كيف حدث هذا؟ لقد تكبدت كل أنواع المشقات كي أبني هذا المنزل! وأين أنا الآن؟
ما أقسى الزمن، وما أضعف الإنسان.
أحاول زحزحة نفسي، فلا أقدر، فأكرر السؤال: لماذا حدث كل هذا؟ ما السبب؟ وما الذنب؟ وأي نوع نرى من الطغيان؟
لقد اخترنا أن نعيش حياتنا، أن نحياها بكبرياء جرحناه حينما لذنا بقبو المنزل. كان يجدر أن نشهر عداوتنا للعدو، أن نريه وجوهنا التي عاجلها وطمسها، وكأنه لا يليق بنا أن يحتوينا إلا هذا «اللامكان ».تمر اللحظات والساعات الرهيبة، ويختفي صوت «زينب يضيق صدري »، وأحاول من جديد زحزحة نفسي، ولكن ...هيهات.
أنصت لأسمع همسهم.
إنه صوت أمي، وهي تبكي وتولول: وينك يا «زينب »؟
أشهق، وتخور عزيمتي وأنهار. أستيقظ على أصداء قرقعة الحجارة، وهمس يؤنس وحشتي... همس حبيب.
إنه صوت «زينب » وهي تناديني:
«فاطمة .....فاطمة »، آه يا أختي، «فاطمة »، وتذوب وأذوب أيما ذوبان.
يا «حسين » لقد جلبت الماء لكم، تقول «زينب ».
- ولمَ تأخرت كل هذا الوقت؟ يجيبها «حسين» زوجي.
- إشتد القصف فبقيت في منزلنا، حتى هدأ الوضع
- ظننتك ذهبت للبحث عن أحد لمساعدتنا.
- الضيعة فارغة، ولا يوجد فيها إلا الحيطان.
- هل ذهبت إلى الطوارىء؟
ذهبت، ورأوني، وسمعوني وأنا أناديهم وأستغيث بهم، بقوا في أماكنهم، ولم يحركوا ساكناً.
تسكت، ثم تعاود الهمس أو الكلام:
- «فريال» صار نصفها في الخارج.
- الحمد لله، الحمد لله، أجاب «حسين » بخجل
- سوف أعمل المستحيل لإخراج ابنتك «فريال »
- الاتكال على الله وعليكِ يا «زينب » أنا من مكاني هنا لا أحس بيدين ولا برجلين.
- سأذهب مجدداً، عل أولئك «الكلاب » يأتون معي هذه المرة، أو أجد أحدا يسحب معي «فريال ».
يرتفع همس أمي بالدعاء وتناديني، ولا أقدر على تلبية النداء.
....ورحلت «زينب »، وبرحيلها ضجت الغدران، وفاضت الشطآن بالأماني الحيرى...
«ترى هل ننجو، ونخرج من هنا؟ لقد رحلت لتأتي بالماء، وتصبه فوق جذورنا، وهي سترجع، سترجع ...ولن تخيب آمالنا.
من الظلام ستأتي، ومن بطن الحوت ستحملنا، فهي الآن كما الثوار، تصارع وتقاوم، لترفع النهاروتسقي الأزهار، في حدائق العمر المنهك .
لقد نجّى الله «زينب »، لأنها لا تنوء بحمل، ولا تشتكي ولا تجزع. مزقت كل الخرق، كي لا تصبغها الهزيمة بلون الضباب، وأطفأت كل الشموع الضعيفة وهدأت من روع «حسين » الرجل الوحيد فينا، والذي تمكنت منه الحجارة اللعينة.
ومضت، وبقينا ننتظر، وسنبقى ننتظر، مهما طال بنا الانتظار.
على رهبة مرت الساعات... ورغبة مرة.
....عاد الثوار، فلقد حان موعد الانتصار، وانهزم العدو ... واندحر .
...وعادت «زينب » و.....
إنتُشل «حسين »، وانتشلت «فريال »، وانتشلت «زينب » أمها، وحفرت بأظفارها بحثا عن «فاطمة »، واستعانت بآخرين حفروا، ظلوا يحفرون، حتى وجدوا رأسها المفجّم، من عمود كان يوماً لدار، ظل العدو يضربه حتى انحنى، وسجت كل الأعمدة، دماراً على دمار.
ماتت «فاطمة ». شيعوها وبكوها، ونثرت أمها فوق قبرها ورداً وشعراً:
يا شايلين الحطب
قطع ظهري التعب
وينا لكانت مكحلة للعين
وينا الشهيدة لماتت مرتين