المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

في وداع الشهداء

عبد الرحمن جاسم

البارحة، كنت أطالع صور الشهداء، باسمون هم، يتطلعون نحو أفقٍ آخر غير الذي نراه في المعتاد نحنُ. ماذا تعني فكرة الشهيد؟ ماذا تعني فكرة أن تكون "جاهزاً" كي تضحي بروحك وجسدك لأجل الفكرة التي تؤمن بها؟ ما الذي يجعل الشهيد بقيمته هذه؟ هل مجرد التضحية تلك تجعله نبيلاً إلى هذا الحد؟ البارحة كنت أطالع صور شهداءٍ عرفتهم شخصياً لأيامٍ وليالٍ، ضحكنا على أشياء سخيفة، ابتسمنا على كلماتٍ قالها أحدنا فجأة، على مباراة كرة قدم لعبناها أو شاهدناها سويةً. هكذا يرحل أحبتنا بهدوء، ولربما بصخب داخل أرواحنا، لكن رحيلهم الصامت، الهادئ، الذي يحصل لنا حينما نعرف عبر رسالةٍ أو اتصال أو حتى عبر مواقع التواصل الاجتماعي: أن أحبتنا قد رحلوا. 

هكذا دون أي مقدماتٍ، دون أي توقعات، تكتشف فجأة أن صديقك الذي قضيت معه أياماً طوالاً، تفعل أشياء عادية، تخبره أحاديث لا يعرفها أحدٌ عنك، بات في عالمٍ آخر، عالم لا تعرف عنه شيئاً إلا أن من فيه مرتاحون أكثر، وأنهم لن يعودوا مرةً أخرى. لن يعود صديقك الشهيد هذا أبداً، فكل ما ستحصل عليه، بضع صورٍ مشتركةٍ، بضع تعليقاتٍ خاطفةٍ لربما ستنساها كما هي، وستعود لتتذكرها في أوقاتٍ معينة مرتبطة. ستتذكر صديقك نفسه حينما تذهب إلى مكانٍ كان يحب أن يأكل فيه، أو لربما تكون الذاكرة خلابة أكثر: ستتذكر فجأة يوم سقط على الأرض وتوسخت ثيابه الجديدة ولم تستطع منع نفسك من الضحك عليه، يومها غضب منك لدرجة أنه لم يكلمك لأيامٍ كثيرة. ستتذكر كل هذا فجأة، ولن تستطيع ساعتها إلا البكاء. سيكون الشهيد مختلفاً عما عرفته خلال أيامٍ كثيرة طويلة، سيكون باسماً كثيراً، شاهقاً، فجأة. سيصير إنساناً آخر، حتى المواقف التي لم تكن يوماً تعجبك عنده ستتذكرها بفرحٍ غامر، ستعتبر أن ما قام به "يجبُ ما قبله" بشكلٍ نهائي، وأكثر من ذلك، ستعتبر أنك أنت من كنت مخطئاً حينما لم تودعه كما كان ينبغي، لم تقل له كل ما في قلبك من أمورٍ أخرى كانت تصلح أن تقال له. ستندم كثيراً على أشياء لم يتسع لك الوقت كي تقولها. 

تشييع شهيد

أخبرني أحد الأصدقاء أنه كان يلوم صديقه الشهيد حسن عبد الله على تأخره على مواعيدهما سوياً. وكلما التقيا كان حسن يأتي متأخراً على موعده، وكان هذا الصديق يلومه بشدة على ذلك. يوم التقيته بعد استشهاد حسن، أخبرني أول ما أخبرني أنه يتمنى لو أن حسن يتأخر بدل الساعة ساعاتٍ، ولكن مجرد معرفة أنه "سيأتي" كانت لتكون كافيةً لمحو كل ذلك الشعور بالضيق والألم. تصير تلك العلاقة مع شخصٍ أنت تعرف أن ذكرياتكما معاً باتت "ذكريات" وأن كثيرين يعتقدون بأنه لن يضاف إليها شيءٌ، وفي ذلك هم واهمون. ذلك أن العلاقة مع الصديق الشهيد ستصبح أقوى بعد شهادته، ستسمي أبنك باسمه يوماً، وستنظر إلى أهله وأحبته على أساس أنهم أهلك وأحباؤك أكثر من ذي قبل، لا بل إن إخوته الصغار سيضحون إخوتك، وستتعامل معهم على اعتبار أنك أخوهم الكبير الذي استشهد، وستنظر بشكلٍ كاملٍ إلى أنَّ هذه العائلة هي عائلتك، وستحبها حتى أكثر من عائلتك الحقيقية نفسها. ستكون ملزماً تجاه عائلة ذلك الصديق أكثر من التزامك تجاه نفسك حتى. فالإخلاص لا يحتاج كتيب إرشادات، إنه شيءٌ يولد مع الصداقة نفسها، ولا ينتهي برحيل أحد الأصدقاء البتة. عندما يرحل أصدقاؤك شهداء ستشعر بأنك "خُذلت" بعض الشيء، فأنت أيضاً –لربما- كنت تنوي ذاك الرحيل معهم، لكن ما يشفع لك ويطفئ شعور الخذلان ذاك هو معرفتك تماماً بأنك ستكمل الدرب ذاته، وستحمل الراية نفسها، وستظل مكملاً ذات الطريق إلى آخره، أو آخرك.
24-شباط-2015

تعليقات الزوار

استبيان