المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

خلفَ الظلال

فاطمة مراد


...لم تسمعهم. بالتأكيد لم تسمع شيئاً. كانت تحث الخطى لتعبر إلى حيث تذهب في مثل هذا الوقت - لا فرق اياً كان الفصل - لتصل إلى تلك الناحية الضيقة من الطريق المتعرج. تقف ًفي ذلك المكان الذي لا يبرح الحدقة، منذ خمسة عشر عاماً، وتغوص في تلك النظرة المندهشة كوجهة صلاة، وانحباس أنفاس، وقد أدمنت أن ترى ذلك المنزل المنغلق على حزنها العتيق، ولم تسعفها الأيام بتخطيه، فهي على موعد مع ولادة النهار بالقرب منه وحتى انقضائه، تذرع طرقات القرية ذهاباً وإياباً مروراً بالساحة عدة مرات، لتقف قبالته، تلقي عليه التحية ثم تعود أدراجها لتكمل بعض الاعمال، ثم ترجع ... وهكذا.

بات الجميع على علم بحال «أم محمود »، وعندما يرونها تلطم النساء خدودهن، ويلوي الرجال المجتمعون في الساحة أعناقهم، ويضربون كفاً بكف حسرة ولوعة عليها، وقد يناديها أحدهم ليواسيها، فتقف أمامه كالمذهولة، كأن روحها قد غادرت ذلك الجسد النحيل، وحلت محلها تلك النظرة البعيدة، تصوبها أينما حلت، إلى تلك الناحية من الفؤاد، ويدور لسانها الذي اعتاد الوتيرة الواحدة كتلاوة: ما عاد ينفع شيء بعدما رحل الأحباب. تهمس بها، تختزل كل الأجوبة، وترد على العتاب الذي لا ينتهي، وتستدير وترحل، تتلاشى في الأضواء الباهرة، التي تسطع من هناك، فتغمض عينيها وهي جالسة فوق صخرة نابتة قبالة المنزل، وتشرع في الغناء، تارة لسرب الطيور الذي هجرها وخان المكان، وتارة تزغرد للعروس بوجه يتلألأ مزيناً الشرفات، كالزهور من حولها، والتي اعتنت بها جيداً، وكلما نبت الشوك هجمت عليه كالطريدة، واقتلعته ورمته بعيداً.... خوفاً على «مريم » والإغفاءة الوردية في عينيها، وخوفاً على اللحد، والسرير من المرمر أن يخدش، وهي ترقد فيه إلى جانب زوجها «أنور» وابنهما من كوكب العنبر، وعلى رجليها أن تتعثرا كلما حاولت اجتياز السياج الموضوع بينهما، والفاصل بين حضنيهما منذ أمد.

على الرغم من اجتيازها لتلك المسافة كل يوم، وبالرغم من افتراشها للزوايا عند القبر «قرب المنزل »، وبالرغم من احتضانها له إلا انها تدري جيداً، أن هناك جداراً قابعاً في الوسط، لا يمكن تحطيمه، وسفراً، وأمواجاً عاتية من اللهفة والانتظار المر. وظلت وكما عَهِدها الكل، مأخوذة .

 «قصة جرت زمن الاحتلال، في إحدى القرى الجنوبية، ليلاً وأثناء منع التجوال، احست «مريم» بآلام المخاض، فحملها زوجها إلى القرية المجاورة، ولم يصلا».
13-آذار-2015

تعليقات الزوار

استبيان