المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

ذكريات 25 أيار، كمن أضاع ليلة القدر!

جلال شريم



لن أنسى صبيحة ذلك اليوم، عندما استيقظت، متأخراً بعض الوقت، بسبب تأخري في العمل ليلاً. سمعت عبر المذياع ان أهالي قرية "حولا" تجاوزوا نقطة "القوات الدولية"، وتمكنوا من الدخول إلى قريتهم! لم أستوعب هول الصدمة، فعلا صوتي بالهتاف، وأخذتُ أقفز بطريقة فيها فرح الطفولة البريء. هرعت أمي (أطال الله بعمرها) وسألتني: ماذا هناك؟ لماذا هذا الصراخ؟ فأخبرتها ببعض الكلمات المتقطّعة، التي لم تؤلّف جملة مفيدة، لكنها عبّرت عن الواقع!


كنا في اليوم، الذي سبق ذلك الصباح، قد سمعنا أخبار تمكّن أهالي قريتي القنطرة والطيبة من الدخول إلى قريتيهم. ولا أزال أذكر نسائم البشرى والأمل التي دغدغت مخيلتي عند سماعي صوت ابن بلدتي الشيخ حسن نصر الله، مباشرة على الهواء، من الطيبة (المحررة) عبر أثير إذاعة النور. عدت من عملي في إذاعة البشائر، عند منتصف الليل، وآويت إلى حلم يدغدغني، عوض فراش يحضنني! وكان ما كان عند الصباح. تهتُ في دوامة من حيرة، ومن أسئلة: كيف سينتهي اندحار العدو وعملائه؟ وما هو مصير أهلنا في المناطق المحتلة؟ وما هو مصير المعتقلين في الخيام؟... وكان القرار هو الالتحاق بركب التحرير، فكانت لنا جولة في اليوم التالي، مع عدد من الاصدقاء، انطلاقا من معبر بيت ياحون. وصلنا الى المعبر بشق الأنفس بسبب الزحام، وتوافد الآلاف الى المناطق "المتحررة". وصلنا الى نقطة العبور، ووقفت استرجع الذكريات: كم أذية صُبّت فوق رؤوس أهلنا هنا؟ وكم من شهيد وجريح روى هذه الارض بدمائه؟ وكم من معتقل نُقل من هذه النقطة الى زنازين الظلام والبطولة؟ وكم من قذيفة انطلقت من هنا لتصبّ لهب حقد المحتل فوق رؤوس أهلنا؟ وكم مضى من سنين لعب فيها هذا "المعبر" دور "الحاجز الآسر" للمناطق التي تنوء تحت ثقل المحتل وعملائه؟ وكيف لعب دور "الفاصل" بين عالمين لا يكادان يتشابهان بشيء، بل يتوق أحدهما الى اللحاق بالآخر؟ وها قد جاءت اللحظة، وتحققت المعجزة!



ورغم الجانب المظلم لهذا المعبر فإنني تلمّست خطوات المقاومين فوق ترابه، وتخيلت كيف كانوا يفتحون كوة ضوء، ونسيم حرية من دمائهم، وأحلام شبابهم، التي أزهقوها ليرووا بها ظمأ أحلامنا. فهنا اقتُلع من تلك الارض المقدسة العميل "الجلبوط"، والعميل "حسين عبد النبي" وأمثالهما ليُغرسوا في جحيم الآخرة وفي حجيم الذاكرة التي لا ترحم.

أيقظتني من رحلة ذكرياتي أطلال بلدة كونين التي كانت شاهداً على الارهاب والهمجية بعد تدمير بيوتها، وتهجير أهلها من قبل المحتل وعملائه. وكانت أيضاً شاهدة على مجابهة العدوان والارهاب بالصبر، والتخطيط الدقيق، فكانت عملية "الاسيرين". وبسبب كبر الجرح، وثقل المصاب، كان وقع الفرح والبهجة أكبر إذ كانت ساحات البلدة عامرة بحلقات الدبكة، وأهازيج الفرح والانتصار. هي أجواء من صبيحة تحقق الحلم بعد أكثر من خمسة آلاف ليلة وليلة من الأرق والسهر والانتظار على أحر من جمر الاحتلال!

عبرنا كونين ويمّمنا صوب مدينة بنت جبيل التي لا زالت تحافظ على وداعتها القروية، رغم لقب "مدينة". وصلنا الى مثلث الـ17 فأحسست بطيف "ملاك"(1) يحلق في السماء، ينير الدرب، ويرشد السالكين. هتف فؤادي: "هو طيف الشهيد صلاح الذي تغلب على العوائق والمعابر، وغرس جسده وروداً، وحلم تحرير تحقق". جلت بناظري في الأفق، وتذكرت قصص البطولة، والصمود التي تربينا على سماعها عن تلك المنطقة، وصمود المقاومين بوجه الاعتداءات، والاجتياحات الصهيوينة المتكررة من تلة مسعود، الى مثلث التحرير. هنا كُتب تاريخ من المقاومة بإمكانيات متواضعة قبالة آلة الدمار الصهيوني المتوحش، وسط صمت الأقربين والأبعدين.



دخلنا الى ساحة بنت جبيل، الى عبق دم مجزرة سوق الخميس. كان التجمّع البشري الضخم ينتظر وصول معتقلي الخيام الى بلدتهم، بعد أنباء عن توجههم صوب "المدينة". توقفنا قليلاً، تنقلنا بين التجمعات، وسمعنا الكثير من الحكايا والقصص عن الصمود والتحرر. فارقنا بنت جبيل ومضينا باتجاه مسرى أحلامي ومعراج روحي، باتجاه مسقط رأسي ومدرج طفولتي، الى قريتي "حولا"، منبع ذكرياتي وقلعة شريط أحلامي وآمالي. اقتربت من قريتي وأنا أخال أن قدميّ لا تلمسان الأرض. لعلي كنت أخاف أن أثقل على أمنا، الارض المقدسة، أو أنني أترفّق بترابها المضمخ بدماء الشهداء، والمجبول بعرق جباه الأهل والأجداد، فهنا سار أجدادنا، ووقعت خطاهم، وتركوا لنا الارث والتراث، وسلموه الى أهلنا الذين ذادوا عنه بالغالي والنفيس، وسلموه لنا أرثاً مقدساً، بعد أن غرسوا في وجداننا حبه وقداسته، وضرورة الذود عنه مهما كلف الثمن!

وصلت إلى قرب بيتنا. أحسست أن ضربات قلبي تتسارع، وحمْل آلام الماضي يثقل كاهلي. رأيت الأعشاب تنمو بطريقة عشوائية عند مدخله، والغبار والاتربة متراكمة بينها، ولكنني أحستته أجمل منظر، وخيراً مما في الدنيا كلها. وقفت أمامه. تخيلت نفسي وكأنني أحضنه. أحسستته وكأنه تعرّف إليّ. كأنه طفل صغير أمامي يناديني، ينادي تِربه الذي التقاه بعد طول غياب. قلت بيني وبين نفسي: "لعلّي اعتدت العيش في بيروت، ببناياتها العالية، وشوارعها الواسعة، فصرت أخال شوارع قريتي ضيقة، وبيوتها صغيرة، وبيتنا طفلاً". نقلت إحساسي الى الآخرين فوافق شعورهم شعوري. ولكنني عقّبت: "وتبقى بيوتنا عملاقة بصمودها وأفعالها، وشوارعنا فسيحة كقلب الشهداء الذين رووها بدمائهم". تركنا حولا، وما تركتها، بل بقيت بـ"كلّي" فيها، وبقي نظري شاخصاً إليها حتى رأيتها من بعيد مجلّلة برداء الدم، ومتوجة بإكليل الشهيد منذ تاريخها الأول، وعلى مفاصلها الأربعة تنير بدور أربعة: زياد ويحيى، زيد وأحمد.

توجهنا بعدها إلى مركبا فعديسة وكفركلا، حيث توقفنا عند بوابة فاطمة، وتل النحاس قبالة المستعمرات الصهيونية. توقفنا قليلاً ناظرين الى جمال فلسطين المحتلة. وشاهدنا في الأفق أمل الانتصار، الذي لن يتأخر. ثم كانت الوجهة الى "معتقل الخيام"!! عبرنا السهل وبدأنا الصعود الى قرية الخيام بصعوبة بسبب كثرة الوافدين الى القرية، من أهلها، ومن غير أهلها، الراغبين في "اكتشاف لغز" معتقل الموت والصمود. دخلنا المعتقل فركضت بسرعة الى الزنزانة رقم 17 حيث أقمت فيها فترة طويلة. وقفت على بابها، وبدأت باسترجاع الاحداث، ولحظات الاعتقال، ووسائل التعذيب والارهاب، ووقفات العز والصمود والشموخ! تذكرت كيف خرج من هذه الزنزانة قمران شهيدان: بلال السلمان من قرية مركبا، وعبود عبود من قرية الخيام. تذكرت كيف أخذوني من هذه الزنزانة، الى غرف التحقيق، كي أشاهد أمي المعتقلة، كورقة ضغط عليّ، كي أقبل التعامل معهم، ولكنني رفضت. وفي المقابل تذكرت كيف خرج منها كامل كعميل زنزانة ارتضى خيانة نظرائه من المعتقلين، وقدم الوشايات عنهم للسجانين مقابل وعود تافهة ووضيعة، مثل نفسيته الدنيئة.



حاولت البحث على جدار الزنزانة عن اسمي الذي حفرته هناك منذ عقد من السنين، لكنه كان اندثر في ورشة تغيير معالم المعتقل عند دخول الصليب الأحمر الدولي اليه للمرة الأولى في العام 1995. بدأنا بالتجول داخل المعتقل وأنا أقدم للرفاق بعض المعلومات. وصلنا الى المبنى رقم واحد، الذي يحوي الزنازين الافرادية، وفي باحته الخارجية ينتصب "عمود التعليق" شاهداً على الاجرام، وعلى الوحشية، وعلى دماء عدد من المعتقلين الذي استشهدوا معلقين عليه من دون ان يستسلموا للجلاد. وشاهدنا غرف التحقيق، وأدوات التعذيب، وتجولنا في مباني المعتقل المتعددة، حتى وصلنا الى غرفة "عبد الله الممرض" الذي كان يصف لكل الامراض حبتين من ذلك الدواء الابيض اللعين! وكان بثوبه الابيض ينضم الى عناصر الشرطة خلال حفلات التعذيب فيمارس ما يمارسون من ضرب واذلال وقهر. وغالباً ما كان يأتي بعد منتصف الليل ثملاً وينتقي بمزاجه العكر واحداً من المعتقلين ويخرجه الى الباحة وينفث فوق جسده أفانين من الغل والاجرام.

ثم انتقلنا الى سجن النساء. وكان الكثيرون يتحلقون حول زنزانة "سهى بشارة". توقفنا قليلاً لنسترق النظر. سمعت فتاة تقول ضاحكة: "سأحاول الدخول الى الزنزانة وأجرب كم سأصمد داخلها". أجبتها: "بعد فرار العملاء السجانين تستطيعين الصمود"!! ضحك الحاضرون، لكنني كنت على قناعة بهذا الجواب وأن تحرير الأرض يستتبعه "تحرير الانسان"! كانت الشمس تنحني نحو المغيب، ونحن نجول في أرجاء المعتقل الضيق بمساحته وزنازينه، الواسع بدلالاته وبطولات نزلائه، حتى جاء القرار بمسابقة الليل للوصول الى بيروت. خرجت من بوابة المعتقل الرئيسية وفي نفسي نزعة مقارنة بين حال دخولي إليه أول مرة وخروجي منه حينها، ودخولي إليه الآن وخروجي منه. في المرة الأولى جئت معصوب العينين، مكبل اليدين، يقتادني سجان بفظاظة وغلظة، وذقت مر العذاب وأصنافاً من الارهاب قد لا تخطر على البال، وغادرت مع اثنين من العملاء كانا يتصرفان معي بلياقة ناعمة، تخفي في طياتها السم الزؤام، وعار التعامل مع العدو. وفي المرة الثانية جئت بهامة مرفوعة بلا عِصابة ولا قيود، ونسيم الحرية يتغلغل بين الزنازين، وأنسام التحرير تزرع الأمل في ظلمة المعتقل، وخرجت وبريق الحرية يضيء ذلك المساء، ونور التحرر يتلألأ في الأفق وعد نصر لا يلين، من عطاءات رجال ما انحنوا الا لربهم، ولتقبيل تراب الوطن المقدس، ولزرع عبوة مترصدين العدو وعملاءه.
عدت من المناطق المحررة، وعاد شريط الايام بي الى ما مر علينا من محن وأوجاع ومن آمال. عدت وفي قلبي يقين وأمل أن تحرير الأرض بذرة ستُنبت تحرير الإنسان. تذكرت الشهداء والمعتقلين والجرحى. تذكرت المقاومين وكل أهلنا الذين عانوا وصمدوا، فانتصرنا. ولكن تبقى الحسرة أنني لم أرافق العائدين عند فجر التحرير. كلما خطر ذلك في بالي، أخالني "كمن أضاع ليلة القدر".

1 - الاستشهادي صلاح غندور الذي فجر سيارته بدورية للعدو في هذا المكان في 25-4-1995. راجع الرابط: http://www.moqawama.org/essaydetails.php?eid=5511&cid=279#.VV7lE5OCoy4


22-أيار-2015

تعليقات الزوار

استبيان