المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

رواية "اسكندرونة" نافذةٌ على حياتهم


زينب صالح



في تلك الأيام لم يكن المجتمع مجتمع مقاومة. يومها لم يكن الوالد يشجّع ابنه على حمل البندقية دفاعاً عن أرضه أو أملاً في دحر عدوّه، بل ينعره بلهجةٍ مؤنّبة، خائفاً عليه من عدوٍّ أسطورة، لا يمكن مجابهته.
 لكنّ الفتى الذي لم يبلغ بعد مرحلة الشّباب، يمسك بالبندقية، وما تيسّر له من سلاح، ويمضي مبتسماً. إنّه ليس ملاكاً منزلاً، بل فتى يضحك ويحبّ ويعشق، نهض بإرادته، من جبل عامل حين غفا الجنوب في وكر الاحتلال الصهيوني..

 هو تاريخٌ يشهد عليه ايار العام 2000، صيغ بلغةٍ أدبيّة وحبكٍ روائيٍّ مشوِّق، انغمست أحرفه في حبر المشاعر، ليتكلم بجرأةٍ عن أبطالٍ نسجنا لهم ثياباً من خيال، لنراهم الآن بين السطور بشراً مثلنا، يتألّمون ويفرحون ويخافون، ثمّ يقاومون الخوف كما الاحتلال، في روايةٍ "اسكندرونة*"، للشّيخ فضل مخدّر.

يدخل "هاتف" (الرجل الجنوبي المقاوم) على حياة "رنين" (الكاتبة الأرملة)، بشكلٍ مفاجئ. يتّصل بها في منتصف الليل، قائلاً إنّ لديه أمراً هاماً يخبرها إياه، لأنه كان زوج تلميذتها المتوفّاة منذ وقتٍ ليس بطويل.
 وتبدأ أحداث الرواية، في الاستماع الى هذا الغريب، الذي يتّضح شيئاً فشيئاً أنّ لديه من القصص الكثير، عنه، وعن أصدقاءٍ قاوموا.. قصصٌ تشدّ "رنين"، فتصير تنتظر كلّ يومٍ اتصالَ هاتف، وتندفع بقوّةٍ نحو معرفة كلّ ما يمكن، حول "اسكندرونة" التي تدور أحداث القصص فيها أو حولها.

وأبطال الرّواية هم مجموعةٌ من الشّبان؛ هاتف، نسيم، علي، جواد، الشيخ، وشخصيّاتٌ أخرى، تعيش جميعها في القرى الجنوبية البعيدة عن التطور والحضارة، القابعة تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي.
- يجب أن نبدأ يا شباب.
نظر الجميع الى جواد، الفتى الواثق، كيف تنطلق من عينيه شرارات العزيمة والتّحدي، وكيف يهتزّ بجسده النّحيل، حتى كأنّ كل جوارحه تسانده على موقفه ذاك، فسأله علي باستغراب:
- بماذا يا جواد؟
- بالعمليّات ضدّ الاحتلال الإسرائيلي..
- لكن يا جواد أنت تعلم خطورة الوضع.. من أين لنا العدّة والعدد والسّلاح؟ وكم من  الشّباب يمكنه أن يخوض هذه التجربة؟ وكم عدد المدرّبين؟
أسئلةٌ  كثيرةٌ طرحها "علي"، مثّلت حال المجتمع الجنوبي في تلك الحقبة.. ولم ينف "جواد" خطورة المرحلة والعمل، قائلاً إنّ الإصرار والنّيّة هما الأساس، على أن تكونا مقرونتين بالسّرية التّامة، تجنّباً للعملاء والصهاينة، وأيّ خطرٍ قد يقضي عليهم.
 وفي ذاك الاجتماع، رغم متانة العلاقة بين الأصدقاء الخمسة، لم يخبر "هاتف" أصدقاءه أنّه ومنذ 10 أشهر خلت، كان قد التقى بالسيد عباس الموسوي، وخضع لدوراتٍ عسكرية في البقاع الغربي والجنوب، ما يدلّ على سريّة العمل، ومدى وعي الشباب المقاوم في ذاك الزّمن، رغم صغر سنّهم، وغياب البيئة الحاضنة من الأهل والأقارب، بسبب الأفكار السائدة حول صعوبة مقاومة الجيش القوي، خاصةً وأنّ والد "هاتف" يريده أن يكمل تعليمه، وأن يدخل الى الجامعة...
ثمّ بدأ الفتية  بالعمل متنّقلين من حيٍّ الى حيٍّ ومن زاروبةٍ الى زاروبةٍ، بعد التواصل مع "السيد عباس" و"الشيخ راغب"، وصاروا ينقلون العتاد والسلاح، والسيارات، بخططٍ محكمةٍ، لا ينفي تطبيقها براءة النفوس، واجتماع الخوف والشّجاعة، والرّغبة في الحياة، والوعي التام لخطورة العمل الذّي قد يؤدي الى الشهادة أو الاعتقال. فـ"هاتف" في ذلك الزّمن كان يحبّ فتاةً، ويسعى الى الزواج منها، في الوقت الذي ينخرط في عمله الخطير ذاك...

   وبين سرد "هاتف" للسيدة "رنين" التي لم تكن تعرف الكثير عن المقاومين، تتداخل مشاعر الكاتب الناطق بلسان المرأة، فنجدها تقف أمام التّلفاز، تشاهد السّيد عباس الموسوي وهو يحمل المصحف الشريف، يمرّ من أمامه شبابٌ بعمر الورود " يمرّون بنواصٍ شامخة، لا تنحني إلا تحت مصحفه، ويعبرون.."، ثم تتساءل وهي تخاطب "هاتف"، عن سرّ شبابٍ في مقتبل العمر، لم يعيروا الخطر الداهم لحياتهم حساباتٍ أمام أحلام التحرير والتحرر، "سكارى أنتم أم تعشقون؟ مراهقون تاهت عقولكم في غليان شرايينكم فلم يعد للسنين والايام حساباتٍ فتحسبونها؟!"

وتتذكّر أبناءها، قتستحضر حال أهالي المقاومين الصغار، كيف يشعرون، وماذا يصيبهم إن استشهد أو أُسر أو جٌرح أحد الابناء، حيث إنّها تموت إن همس أحد ابنائها أو أحفادها بهمسة ألم، تفكّرٌ يُظهر عظمة التّضحيات في ذلك الزمان..
وذات يومٍ وبعد عدّة استخاراتٍ قرآنية للشيخ راغب حرب، انتقلت سيارةٌ  على طريق الزّهراني، تقلّ "علي" و"الشيخ" و"هاتف" الذي جلس في المقعد الخلفي فوق اربع بنادق "كلاشينكوف" وصندوق رصاص، وخمس قذائف وقاذف "آر بي جي"، وعشر قنابل يدوية، ومجموعة من مخازن البنادق الفارغة.

كان من المفترض أن لا وجود لحاجزٍ إسرائيلي على ذلك الطريق، لكنّ  الشباب تفاجؤوا بحاجزٍ، وبمجموعةٍ من الجنود تشير اليهم، وتدعوهم الى التوقّف..
صاح "علي"
- اهدؤوا جميعاً.. وتوكّلوا على الله..
شعر "هاتف" بالخوف، وفقد القدرة على الكلام، حتّى جاءه صوت "الشيخ" يتلو الآية القرآنية "إنّ الذّين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا، تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا...." فهدأت أعصابه، ولجأ الى كهفٍ من الأدعية والأذكار.. وسرعان ما رأى "علي" ينزل من السيارة، بقوّةٍ وصلابة جأشٍ وشجاعةٍ لم ير نظيراً لها، ويتكلّم مع الإسرائيليِّ، فيغني البقية عن الكلام، وكلما سأل الإسرائيلي سؤالاً، أجابه واثقاً، حتى انتهى به الأمر أن فتح باب السيارة للتفتيش.
لكن ما لم يستوعبه "هاتف" في تلك اللحظات، كيف أنّ الإسرائيلي كلما همّ برؤوية السلاح، انطلق بعيداً عنه، ولم يره، الى أن أنهى مهمّته وقال للشباب "إركب، روخ". هذه الحادثة التي يتكرّر أمثالها في الرّواية، تختصر تجربةً مفعمةً بكلّ ما عاشه مقاومو الاحتلال في ذلك الحين.

 وتنتقل الرواية الى أحاديث للشباب المقاومين فيما بينهم، ومدى الهموم التي تكبّدوها في بدايات أعمارهم، فـ"هاتف" فورما عرف أن البقاء في قريته خطرٌ عليه، لم يتمالك نفسه من البكاء، والنّطق بكلماتٍ وجدانيةٍ مؤثّرة، خاصّة وأنه لم يخبر محبوبته بضرورة ابتعاده عنها، فيقرّر مخالفة الأمر والذّهاب بنفسه لتوديعها قائلاً: "ماذا يعني أن لا أذهب الى القرية؟!.. هي تلك الحسناء التي غنّت لها القوافي.. وتخايلت أمام ناظريها الاشعار. إن البعد عنها مقتل الروح وانقطاع النفس والغرق في نيران اللوعة..". لكنّه سرعان ما يستدرك الخطر، لأنّ "القبض عليّ أنا بالذات أعظم من القبض على أي أحدٍ غيري، لأنّه ثمة ثلّةٌ مصيرها مرتبطٌ بمصيري".

ثم يضرب الحائط برأسه، يلتفت الى أصدقائه، يقول للشيخ: "لم وصلنا الى هنا؟ لمَ وقعنا في المحظور.. نحن فتيةٌ كما يقول آباؤنا، لا نحسن أن نتدبّر ترتيب غرفنا، وطيّ ملابسنا، وها نحن نريد صنع المعجزات..". وينظر الى أصدقائه سائلاً: "هل أخطأنا؟"
ينطلق صوت أحد أصدقائه :
- ومن يتقّ الله يجعل له مخرجاً...
فيعود الى رشده، ويستقوي بكلمات الرحمن:
- نعم... ونعمَ بالله.. هو وليّ الأمر والتدبير..
وتمضي الحكاية، بين ما يبقى من الشباب حياً وبين من يُؤسر أو يستشهد. حكايات ومخاضات بشرٍ صنعوا لنا روايةً، نقف على أبواب" اسكندرونة" علّنا نرسم من بعض أسرارهم، صورة المقاوم الذي هزم "إسرائيل".

*رواية “إسكندرونة” لمؤلفها الأديب والشاعر الشيخ فضل مخدر

09-حزيران-2015

تعليقات الزوار

استبيان