زهراء جوني - موقع العهد الاخباري
لو عرفت أن الصخر هنا سيكون شاهدك الأخير على الحياة، لصنعت لنفسي كوخاً لأراك كثيراً قبل أن تقرر في لحظة إخلاص معانقة السماء..
لو عرفت أن الأرض هنا ستحكي عنك يوماً، لحملت الحبر معي والزاد، وسهرت هنا قربك في اخر ليل أكتب عن عشقك لله..
لو عرفت يا محمد أننا ذات نهار سنأتيك وقد رحلت، لسألت الله أن يأتي بنا إليك قليلاً قبل أن ترحل، لنرى عينيك مرة أخرى قبل أن تغفو للأبد..
ها نحن يا أخي جئناك فأينك؟ أكثر من أربع ساعات ونحن نحبس الأنفاس علنا نعيد إليك رمق حياة أخير لنرى ابتسامتك مرة واحدة بعد. على طول الطريق المؤدية إليك كنت أشمّ رائحتك، أنت هنا بلا شك ترافقنا إلى أرض الجهاد من جديد. تراك أحببت الشهادة وتريد تكرارها؟ أم تحنّ نفسك إلى الجهاد والصلاة هنا؟ هكذا تقول عيون المجاهدين الذين ينتظرون لقاءك، تسمع في أنفاسهم صوت العشق للشهادة.. ما سرّكم؟
كانت أمي تقول: أي جميل ترونه هنا على أرض الجهاد فتتسابقون لتكونوا في مواقعكم؟ اليوم رأت أمي بعض الجميل، وقد شعرت بالقوة والفخر وهي تسير إليكم على هذه الأرض المقدسة.
الارض التي باتت مقدسة
كانت الساعة تقارب العاشرة صباحاً حين وصلنا إلى جرود عرسال. هنا أودع محمد سرّه للأرض، وهناك في مكان يُسمى “القلعة” تجمّع الصخر تحت رأسه على شكل وسادة، حضّر جسده لمفارقة ما فيها من روح طيبة، ومع ابتسامة رقيقة ترك لنا وجهه الهادئ، وليتني أعرف كلماته الأخيرة.
يخبرنا أحد الشباب عن دمائكم كيف أتاحت لنا فرصة الإحساس بالأمان. هنا حيث نقف وأبعد كان يمكن للتكفيريين أن يبقوا ويتمددوا ليصلوا إلى بعلبك وبعدها إلى بيروت والجنوب والشمال وكل لبنان. هنا حيث نقف كانت مجموعات إرهابية تحاول أن تحتل أرضنا وترتكب أفظع الجرائم وكل أشكال العنف والهمجية، هنا كان يمكن لهؤلاء الوحوش أن يأخذوا منا وطننا، لولا المقاومة!
يزداد الشعور بالأمان، كلما اقتربنا في الجرود وشاهدنا الراية ترفرف فوق الجبال كوجه الشمس وهو يوزع الضوء على كل هذه الأرض وأوسع. يزداد التعلق بالأرض، ونحن نرى الحب في عيون المجاهدين، كأنهم يغزلون من هذا الحب بطولات فيزيدونا عزّاً وأماناً وانتصارات.
ويزداد الشعور بالإشتياق. ونحن نقترب من محمد. كأن الفاصل بين الأرض والسماء هو هذه البقعة التي ترفع الشهداء إلى الله. هذه البقعة التي رفعت محمد وأعطتنا سبباً لنتكرّم بزيارة المجاهدين والتبرّك من أرضهم الطاهرة.
لو أنّ الزمن يتوقف هنا. تماماً عند هذا الجبل الذي ترك عقرب الساعة الصغير واقفاً عند الحادية عشر ظهراً، وأوقف الزمن في حياة محمد ليهديه الله زمناً أجمل إلى حيث مضى. لو أن الساعة في معصمي تتقن إيقاف الزمن!
يقف والدي تماماً مكان محمد، يزرع في قلب الصخرة راية النصر ثم يُقبّل ما جفّ من دماء ويشكر الله. لم يخطر في بال والدي أنه قد يقف يوماً هنا ليجمع بعض التراب ويبحث عن بعض الاثار التي علقت في المكان.
يفصل بين حياة أخي والشهادة بضع دقائق. هكذا يخبرنا صديقه الذي لم يشارك الشهداء سفرهم هذه المرة. قد يزورهم قريباً، يضحك. صعد محمد إلى القلعة ليعاين “القناص” في التلة المقابلة، وقبل أن يعود إلى موقعه كان الصاروخ يتوجه نحوه وأصدقاءه، فكانت الشهادة، وكان أجمل الختام.
هذه الدقائق التي فصلتك عن الشهادة يا أخي كانت الأجمل بلا شك، يقولون أن وجهك كان غير قادر على حمل ابتسامتك لوسعها، وأن الضوء فيه كان يكفي لإضاءة السماء، وأن الفرح الذي كان يظهر في عينيك، كان بحجم هذا الكون وأكبر.
قل لي يا محمد، أهكذا يرحل الشهداء جميعهم؟ أم أنكم تتقاسمون الفرح بينكم وترحلون؟
هذه المرة سأترك لك الخاتمة يا محمد، لتخبرهم عن أرض الجهاد التي تعبّدت بدماء الشهداء، فباتت مقدسة كأرض كربلاء.