المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

"بيك أب" مروحين: رحلة أخيرة

المجزرة لم تكسر عزيمة البلدة المقاومة



منذ عودتها إلى مروحين، تجلس والدة سهى غنام أمام بيتها تحتضن صورة كبيرة ملونة لعائلة ابنتها سهى وزوجها أبو قاسم، وتتأمل مع البكاء والندب تلك العائلة التي قضت على أولها وآخرها الطائرات الإسرائيلية في الأيام الأولى لحرب الـ 33 يوماً.  

في ذلك اليوم، كانت سهى قد أيقظت أطفالها من النوم، ووقفت عند عتبة الباب الصدأ، ومصطبة البيت المتداعية، تكبت خوفها الطارئ، عندما عاد زوجها "أبو قاسم" من اجتماع صباحي مرتجل عقده رئيس البلدية عند حافة البركة يطلب منها الركوب مع الأولاد في صندوق شاحنة "بيك آب" تعود لجارهم، لأن أهل البلد سيتركون بيوتهم وينزحون إلى مقر الكتيبة الهندية على طرف مروحين.

ركضت سهى وأولادها خلفها، كان زوجها محمد يحمل إبنه المقعد مصطفى لأنه لا يستطيع التنقل بدون عكازه، لم تكن تحمل في يدها سوى كيس أسود صغير فيه علبة جبنة ورغيفان من خبز الصاج، وهو كل ما استطاعت جمعه، كادت ابنتها التي فطمتها قبل أيام أن تسقط عن خاصرتها. "تعربشت" بالشاحنة وراحت تلتقط أولادها واحدا بعد الآخر، شدت حسين وفاطمة ثم أخذت مصطفى من والده وأقعدته في الزاوية، وكان قاسم الكبير آخر من قفز إلى الشاحنة، فيما كانت السيارة المكتظة بالأولاد والنساء تغادر مروحين على عجل لطلب الحماية من القوات الدولية، والمبيت مع أصحاب البشرة السمراء الداكنة والعمائم الزرقاء.

في تلك اللحظة كانت القذائف الإسرائيلية تنهمر كالمطر في أطراف البلدة تحرق الوعر والزيتون ومشاتل التبغ، ومع كل انفجار تشد سهى أطفالها إلى حضنها، عساها تخفف من رجفة الخوف التي تهز أجسادهم الرقيقة، وهي تعتقد أنها ربما ترد بيدها الموت عنهم. لم تمسح دموعهم. لم يكن أمامها متسعاً من الوقت كي تشرح لهم ماذا يجري، منذ أن سمعت مكبرات الصوت الإسرائيلية القادمة من بلدة طربيخا المحتلة ومستعمرة زرعيت تنذر أهل مروحين بالتيه وبموت لا ريب فيه.

بعد دقائق ثقيلة من الانتظار أمام مقر الكتيبة الهندية خرج جندي دولي، كان خائفاً ومتوتراً، وكأن مصيبة تقترب من موقعه. وقف خلف العارضة الحديدية التي تتقدم البوابة وطلب من رئيس البلدية حسن غنام وبعض الرجال أن يُنزلوا جميع الركاب إلى الأرض.

في تلك اللحظة نسيت سهى الخوف، وشعرت بالأمان لاعتقادها بأن الأمم المتحدة ستوفر لهم الملجأ الآمن وأن المدفعية الإسرائيلية لن تستهدفهم داخل مقر القوات الدولية، لكن سرعان ما تغير لونها ولم تعد قادرة على المشي والانتقال متراً واحداً إلى الأمام، نادت رئيس البلدية بصوت عال إلى ان اقترب منها، ودون أن يسمعها أحد عبرت له عن قلقها من أن يتكرر مشهد مذبحة "قانا" في مروحين، وفي الوقت الذي طمأنها بأن ذلك لن يحدث أبداً كاد رئيس البلدية أن يتجمد في مكانه، وشعر بثقل جسده بعدما عاد عشر سنوات إلى الوراء وتحديداً إلى العام 1996.

طلب الجندي الهندي من رئيس البلدية تقسيم أفراد الموكب إلى ثلاث مجموعات: الأطفال، النساء، والرجال ودوّن عددهم: 28 فرداً. وطلب منهم الانتظار لإجراء الاتصالات مع القيادة.

للوهلة الأولى كادت الكتيبة الهندية التابعة لليونيفل أن توافق، لولا حضور أحد الضباط من المراقبين الدوليين برفقة مترجم ليرفض استقبال النازحين في المركز الدولي، محاولاً تهدئة مخاوفهم، مؤكداً لهم أن "اسرائيل لن تعتدي على أحد، اذهبوا واجلسوا في الجامع".

طال الانتظار أكثر من نصف ساعة ربما تُغير القوات الدولية رأيها فيما كانت طائرة التجسس الإسرائيلية تحلق دائرياً فوق الموقع الدولي وتقترب تهديدات مكبرات الصوت الإسرائيلية المصحوبة بصوت جنازير ومحركات الدبابات الاسرائيلة التي احتشدت خلف خط الحدود الأزرق.

انطلق موكب المدنيين نحو مدينة صور، كان أولاد سهى يلتصقون ببعضهم البعض، وبعضهم كان يلتصق بوالدته، ويحاول الاختباء في حضنها أو الاحتماء تحت إبطها، طلباً للأمان، وكان مصطفى لا يزال في زوايته حيث أسندته والدته.

واستشهدت سهى وزوجها محمد (أبو قاسم) وجميع أولادها ولم يعثروا على جثثهم كاملة، جمعوا الأشلاء، وكان على أقارب سهى أن يتعرفوا على الأشلاء.

الذين نجوا لم يشاهدوا لا سهى ولا أولادها الخمسة وأغلب الظن أن الصاروخ نزل عليهم في صندوق البيك آب مباشرة، ويحكي هؤلاء حكاية واحدة: ارتفعت السيارات عن الأرض وسقطت مشتعلة، وتطايرت الأجساد وتناثرت أشلاء متفحمة.

ومما يقوله احمد بديع وسمير مهنا من الدفاع المدني بالهيئة الصحية الإسلامية وكانا أول الواصلين في وصف المشهد "لم نجد جثثاً بل أشلاء متفحمة وبعضها لا تزال النار حية فيه، فيما رائحة اللحم البشري المحروق تخنق الأنفاس، بحثنا عن ناجين فوجدنا أربعة جراحهم بالغة، وحالتهم خطرة وانطلقنا في مهمة مستحيلة للوصول بالجرحى إلى المستشفى الحكومي بصور، لأن الطائرات والسفن الحربية والمدفعية كانت تستهدف طريقنا".

يقول رئيس البلدية حسن غنام إن "إسرائيل ارتكبت المجزرة عن سابق تصور وتصميم، ولطالما استهدفت البلدة"، مستذكراً عندما اقتحمت القوات الاسرائيلية في العام 1956 البلدة وقتلت "نايف حسن المحمود" مختار عرب السنية على فراشه، لأنه "كان معروفاً بمقاومته لـ"إسرائيل"". ومروحين بالرغم من كل ذلك فهي إلى جانب المقاومة، وقائدها سماحة السيد حسن نصر الله وسلاحها".
قاسم متيرك  
16-تموز-2016

تعليقات الزوار

استبيان