فاطمة ديب حمزة
كانت قافلة شهداء الدفاع المقدس تسير باتجاه الجرود اللبنانية.. وكان "سراج"(*) يضرب موعداً مع القتال حتى الشهادة دفاعاً.. هيأ نفسه، ودع أهله، قبّل أمه، استودع أخته قلادة، حمل حقيبته الصغيرة.. ألقى بصره أقصى القوم، وأعار الله جمجمته.. ورحل!
صغير البيت مدللي.. استشهد!
"في كربلاء الكل استشهد .. " كانت هذه قاعدة الجهاد لصغير العائلة .. إنها كربلاء اذاً، حيث الأعمار فيها مجرد أرقام .. وبذل الدماء فيها مجرد أيام، و "سراج" ـ ابن الثامنة عشرة وسبعة أشهر ـ كان أجمل أيام بيته .. وكان أكثر أفراده ضحكاً واستبشاراً بأن الآتي، هو نصر ولقاء مع من احب الله وأحبه ..
بحماسة، تروي الأم حماسة صغيرها المدلل للشهادة .. "دعيلي يا ماما استشهد.." تنقلها عنه وهي تغص فيما تبقى من كلام .. ومع ذلك، كانت تستجيب لطلبه، وتدعو له بنيل مراده .. ثم تعرّج على جميل اللحظات بينهما .. "كان صديق مشاويري، اينما ذهبت، وكيفما اتجهت "حمودي" كان يضل معي".. "حتى نومه، كان إلى جانبي".. تذكر لنا ذلك وهي تتحسس روحه الباقية فيها، وكأنه يستمع وينظر اليها بعينيه الجميلتين .. ثم تتذكر المزيد عنه: "كان في جسد الشهيد جروح وإصابات .. ومع ذلك لم يتأخر عن واجب الجهاد".
يدخل والد الشهيد على خط الكلام عنه.. بفخر يحدثنا عن بطله.. يستذكر آخر صلاة له ورؤية: "كانت صلاة الصبح .. أنهاها محمد وأخبرنا أنه رأى أمامه رجلا بلباس أبيض.. تتشابه صورته مع الصورة المنقوشة في الأذهان عن سيد الشهداء أبي عبدالله الحسين".. ينهي الوالد نقل الرواية بلهجة الواثق أن ابنه الشهيد نال أرفع أوسمة القتال.. ثم يكمل: "طلب رضى أمه، نظر الينا واحداً واحدا .. أخبرنا بأنه سيُشيع شهيداً، وفعل".
تعود الأم لتستلم أطراف الحديث.. تستجمع ذاكرتها المملوءة بصور شهيدها وقصصه.. "أحضرت له حقيبة الجهاد .. ودعني وودع الجميع، ثم عاد ليودعني مرة أخرى، ويطلب مني أن لا أحزن عند استشهاده.. اتصل بأخيه في سفره، أوصاه على نفسه وعلى أهله، وقال له كلاماً معناه أن هذا هو الوداع الأخير.. قاطعه أخوه ليخبره أنه سيعود في زيارة قريبة، لكن "سراج" كان قد حسم أمره: "لن نتقابل يا أخي، فأنا مسافر مع ركب الشهداء .. فشيعني".
قلادة الشهادة .. الأمانة
تفتتح أخت الشهيد "سراج" الكلام عنه بأنه: "كان روحي.." تختلط المشاعر في داخلها وهي تروي حكايتها القصيرة معه.. تبكي اشتياقاً، ثم تضحك عندما ترتسم صورته امامها من جديد.. "كان يخبرني كل شيء عنه، وكان رفيق أوقاتي كلها عندما أعود من سفري".
تنقل الأخت وتكرر، "تأثر (حمودي) باستشهاد رفيقه (أحمد صبرا) ".. وفي تشييعه قام "سراج" "بتزيين سيارة بصورة الشهيد صبرا والورد.. كنت معه في السيارة حينها .. وفي الطريق صار يدلني على الحيطان والأعمدة والشوارع التي ستُعلقُ عليها صوره هو بعد استشهاده.. وأخبرني ماذا سيُقال عنه، ومن سيخبر عنه بكذا وكذا" ، تروي الأخت وهي في دهشة، لأن بعد استشهاد محمد صدقت نبوءته، وحصل كل ما تصوره وتوقعه".
لحظة غصة ـ ثم تعود الأخت لتخبرنا عن قصتها الخاصة مع قلادة "حمودي" : " قبل ذهابه إلى الجرود، وبينما كان يودعنا وأمي توضب له الحقيبة، انتفض محمد من مكانه، وذهب إلى غرفته وأحضر قلادته العسكرية، وأودعني إياها.. سألته عنها، فقال لي: هذه قلادتي يا اختي، احتفظي بها ولا تلبسيها إلا بعد استشهادي...".
فرحين بما آتاهم..
"ليس كثيراً كل ما نقوله عن الشهيد سراج .." يجمع الأب والأم والاخت في حديثهم عنه.. وهو الذي عرفت أنحاء جسده كل صنوف الجهاد حتى الشهادة.. وهو الذي لم تتخط أيامه عمر الورد، لكنه عبر بروحه فوق سحاب الفداء إلى حيث أراد وسعى ودعا .. فكان مصداقاً لمن هم:
"فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ – صدق الله العظيم".
(*) شهيد الدفاع المقدس: محمد طالب شعيب – سراج
زمن ومكان الاستشهاد: معركة تحرير الجرود اللبنانية - 21 تموز/ يوليو 2017