المقاومة الإسلامية - لبنان

الموقع الرسمي


خاص مقاومة

تموز 2006.. الحرب على الذاكرة

لا يمكنني أن أصف الفراغ الذي شعرنا به في 14 آب 2006، عندما فرغ بيتنا في بشامون بعد إعلان انتهاء العدوان على لبنان. المنطقة كلها خاوية، فالجميع عاد إلى الجنوب والضاحية ليبيتوا ليلتهم كيفما شاء، فقد اشتاقوا إلى حضن أحيائهم! في الحقيقة، لم أستطع البقاء بعيداً عن الضاحية طوال فترة الحرب، وما إن اتصل بي أحد الأصدقاء لكي أعمل مع المراسلين الصحفيين الأجانب الذين جاؤوا لتغطية أخبار الحرب في لبنان حتى قبلت فوراً. كان العمل بداية في بيروت، ومن ثم انتقل بعد 14 آب/أغسطس إلى الجنوب. وبالطبع لن تتسع الكلمات القليلة لذاكرة دامت ثلاثة وثلاثين يوماً وأكثر.

أول مرة أردنا فيها الدخول إلى الضاحية جئناها منفردين، أنا وأحد المراسلين الذين قدموا من ألمانيا. كانت الساعة الثالثة بعد الظهر؛ وقَبِلَ أحد السائقين العموميين إيصالنا من الحمرا في بيروت الغربية إلى الضاحية عن طريق المطار، وما أن اقتربنا من مدخل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لندخل عبر المفرق المؤدي إليه، حتى دوى صوت أزيز، تلاه انفجار هز أركاننا، وعدنا أدراجنا إلى بيروت. لم تكن التجربة الأولى بالنسبة لي بالسهلة أبداً، ووضعتني في موقف المتسائل، عن هؤلاء المقاومين البواسل القادرين على العيش والتصرف بحكمة والقتال تحت هذه الظروف، إن من يختار هذا الطريق لا بد أنه يملك قدرة فائقة على التحكم بالنفس والبسالة. بصراحة كنا نسمع أصوات الإنفجارات والطائرات الإسرائيلية ونراقب قصف الضاحية ومطار بيروت من شرفة منزلنا في بشامون، ولكن الأمر ليس مشابهاً لما حدث عند بوابة الضاحية.

في اليوم التالي دخلنا إلى الضاحية مع إحدى الجولات التي كان ينظمها المكتب الإعلامي لحزب الله. ويومها صرت أدور حول نفسي، لم أكن أصدق أين أنا، ما شهدته يومها من دمار جعلني أتساءل ماذا سيفعل أصحاب البيوت، إلى أين سيعودون؛ وهؤلاء الذين قضوا عمراً في بناء بيوتهم وذكرياتهم، لقد مسحت جميعها مسحاً. عشت في تلك اللحظة مشاعر صديقي حسين الذي كان قد عاد قبل ثلاثة أيام، كان أهله قد خرجوا من الضاحية ليسكنوا في شقة أحد أصدقائهم في نفس البناء الذي نقطن فيه. لم يأخذوا معهم شيئاً على أمل العودة قريباً. كان حسين ينزل كل يوم ليقضي نهاره في الضاحية مع الشباب، اذ لم يكن قادراً على البقاء في خارجها حتى تنتهي الحرب.

عاد حسين يبكي، رأيته يبكي لأول مرة، لم يكن يبكي هدم البناء الذي يقطن فيه، ولم يكن يبكي عدم قدرته على تحمل المخاطر، لقد كان يبكي صور والده المتوفى، والذي لم يبق من ذكراه شيء، سوى ما تحمله قلوب عائلته. عندما دخلت الضاحية روعني كم حسين وكم أم حسين سيعيشون الحالة ذاتها. لم تكن حرب تموز 2006 حرب احتلال وهدم وتنكيل فحسب بالنسبة للإسرائيلي، لقد كانت حرباً على الذاكرة.

هذه الذاكرة التي تؤرق وجودهم في لبنان وفلسطين وفي كل بقعة من أراضينا المحتلة. ومن أجل هذا هدموا الحارات القديمة في بيوت الجنوب في عيناتا وبنت جبيل وعيتا الشعب وغيرها من القرى التي قاومتهم ومن أجل هذا يغيرون ملامح البلاد التي يحتلونها. هم يظنون أنهم بهدم آثار القرى يستطيعون أن يمحوا آثار الذاكرة.

 دخلت الضاحية، ولكن الذي رأيناه كان أكبر بكثير مما يمكن تخيله، أبنية وأحياء مسحت تماماً. المشهد أكبر من أي فيلم من صنع هوليوود. الشوارع التي كنا نسير بها، تغيرت ملامحها، أغلق بعضها بالردم وبعضها الآخر اختفى نهائياً، مما جعلنا غير قادرين على معرفة الإتجاهات. طائرات التجسس "الإم كا" كانت تحوم حولنا، وهرباً منها كنا نحاول أن نلوذ بالأبنية التي ما تزال واقفة، كان أمراً مضحكاً، نهرب منها، إلى أين؟ هي لم تقصفنا وقتها لأن الإسرائيلي كان يريد أن يبث الرعب في قلوب أهلنا، ليظهره من خلال الصور التي تحملها عدسات المراسلين وكلماتهم إلى اعلام العالم بأسره، كما أن الإسرائيلي لا يستطيع أن يقصف كل الصحفيين العالميين المتجمعين دفعة واحدة. وعندها سأل أحدهم: "المحلات مفتوحة، من يحرسها؟" كانت البضائع منتشرة، وحتى علب "البيبسي" تدحرجت في الشوارع ولكن أحدًا لم يلمس شيئاً. قلنا إن شباباً من حزب الله يحرسون الضاحية! وتأكد ذلك في المرة الثانية التي نزلنا فيها الضاحية ودخلناها وحدنا من ناحية برج البراجنة. حيث التقينا بمجموعة أخرى من الرجال: كان بينهم حرفيون، وأصحاب مطاعم، ومحلات، وقالوا لنا أن هناك من يحرس فعلياً. وبينما نحن هناك جاء بعض الناس ليتفقدوا بيوتهم ومحلاتهم، هم يأتون من وقت لآخر، ولكن أحداً لم يقترب من بيوت أو محلات الآخرين. وهذا ما لن يحدث في أي مكان آخر في العالم حيث تتعرض خلال الحرب البيوت والمحلات للنهب والسرقة.

ثلاثة وثلاثون يوماً لا تنس، بكل ما فيها من عز ومآسٍ. لا يمكننا فيها أن ننسى العز الذي شعرنا به بعد انتهاء الحرب على الجنوب اللبناني في تموز من العام 2006. وحث الخطى، الذي شهدناه باتجاه الجنوب كان تأكيدا من أهله، أنهم لن يتركوا أماكنهم ولو اعتدت "اسرائيل" ألف مرة. ذكّرتنا حرب تموز بحجم كذبة "العالم الحرّ" في العصر الحديث، الذي ينتقل فيه الخبر عبر الصوت والصورة خلال لحظات، ومع ذلك رضي وما زال يرضى بهذا الهول من الدمار والقتل، الذي تشهده منطقتنا.

15-آب-2018

تعليقات الزوار

استبيان