ولمَّا أزل أستشعر حنان الأمومة ودفئها ممزوجًا بالعنفوان والإباء، ولما تزل نبضات قلبي تدنو منها رويدًا رويدًا، تتقرى كلماتها الهادئة.. منذ أن التقطت يدي وشدّت عليها براحتيها لنتابع الطريق وقلبي يرجو في كلِّ خطوة أن لا ينتهي، منذ أن طبعت على جبيني تلك القبلة المفعمة بالحب، معطوفة بابتسامتها الرقيقة التي لم تفارقها مهما زادت التضحيات واشتدّ المصاب، فلو أن لديها المزيد فإنها لن تبخل..
منذ ذلك اليوم، لا يزال صدى صوتها يتردد على مسامعي، وكلماتها شاخصة أمام كلّ موقف يواجهني، لعل كلماتها حفرت في ذاكرتي دروسًا للحياة، ونماذج للصبر... إنها الحاجة آمنة سلامة، والدة، زوجة، وجدّة..
ليست كسائر الأمهات.. هي والدة أرضعت أبناءها عشق الشهادة، وربَّتهم على أن الجود بالنفس لا يساوي شيئًا في سبيل القضية.. وأن دم الوريد أقرب المسافات في سبيل العروج.. فقدمت ثلاثة أقمار تضيئ ظلمة ليالينا، أجيالًا من الشهداء وحتى الرمق الأخير.
الحاجة آمنة، تتعثر عند الحديث عنها الكلمات، وتتبعثر الحروف عندما تحاول أن تحيط بشخصها، فهي التي زاوجت في شخصيتها بين الدور الرسالي خدمة للمجاهدين، الريادي في نشر منهج المقاومة وقيمها وأهميتها، حكايات من عنفوان تراب الجنوب الذي أحسّ وقع أقدام المجاهدين الذين شقوا طريق الفجر إلى المقاومة... وبين جهادها في منزلها، فكانت "كالنحلة" كما وصفها المقربون منها في النهار، لتأدية تكليفها وحفظ الوصية الأساس، وتبيِّن للمجتمع المقاوم أن المرأة يقع على عاتقها نصف الجهاد، فهي المربية، والزوجة، والابنة التي تضحي بأحبائها لصون المجتمع وكرامته.
وفي منزلها، تعود الحاجة لتكمل تكليفها الإلهي في خدمة عائلتها، وزوجها بشكل خاص.
"اللي بعدو موقفني ع إجريي هو الحج فايز"، تلك كلماتها التي أظهرت من خلالها دور الزوجة المجاهدة، فهو، بكلماتها الحانية، من فقد أحباءه، وهي وحدها من تبقّى له منهم.. فتسهر ع راحته، وتؤانس غربته، ولكنه الآن رحل.. رحل إلى جوارهم، فاستقرت الحاجة آمنة مطمئنة في ضريحها.. فقد أدَّت دورها الزينبيّ وحان وقت الرحيل.. فإلى رضوان الله يا "أم الشهداء".. إلى رضوان الله يا "جدة الشهداء".. إلى رضوان الله يا "أم عماد"... يا حاجة آمنة.
رباب مرتضى