قصة سحب جثمان الشهيد مصطفى حيدر من قِبَل صديقه.
من صفحة الأستاذ محمد حسين لمع
-لقد تمكن الاخوة من سحب الجثّة، من محيط موقع سجد إلى بوابة عقماتا فور انتهاء العملية، ثم انتَظروا يومًا حتى ابتعد الصهاينة، فقد كمنوا بالقرب منه. و اليوم سحبوه إلى السهل. هو موجودٌ الآن تحت شجرة السنديان الكبيرة، حيث نرتاح عادةً.
+ سأنطلق فورًا. الليلة سيكون في الضيعة.
- تمهّل يا أبا حسن، فليرافِقْكَ أحدُ الاخوة. انتظرني سأتصل بهم.
+ لا، لا يحضره غيري، و لا يعاونني بحمله أحدٌ. ستكون هذه مهمتي وحدي.
+ وحدك، مستحيل.
-ذلك كان عهدًا قديمًا بيني و بينه، وعدته بأن أحضره من أيّ مكانٍ يستشهد فيه ولو داخل المنطقة المحتلّة. لا أنكث عهدي معه، أنا ذاهبٌ الآن.
- في أمان الله. لا تنسَ جهازك، أبقِه مفتوحًا كي لا نقلقَ عليك. و كن حذرًا فالمنطقة ما زالت تتعرض للقصف و التمشيط منذ نفّذنا العملية.
دخل أبو حسن البيت، بدّل ثيابه المدنيّة و لبس جعبته و حمل سلاحه و نادى على زوجته طالبًا منها أن تأتيَه بالحبل. جاءت أم حسن و الحبل بيدها. ناولته إياه، فسلّم عليها و غادر دون أن ينبس ببنت شفة. وقفَت بالباب طويلًا و راحت تراقبه يغيب في جوف الليل جارًّا بغلتَه خلفه. لم تسأله عن وجهته ولا عن طبيعة مهمته، فهو في الاحوال العادية لا يجيب عن هكذا أسئلة، كيف و هذه المرّة الامر جللٌ و المصاب عظيم؟ لم ترَ بسمته منذ يومين، و إن أكلَ فالقليل من الزّاد فقط و إن حدّث فالضروري من الكلام. و معظم الوقت كانت تراه شاردًا تائه العينين، يشغل باله أمرٌ عظيمٌ، لم يشأ الافصاح عنه.
لفح وجهَ أمّ حسن هواءٌ جليديٌّ فأغلقت الباب اتقاءً للبرد، و لمّا سمعَت عويلَ الرياح في الوادي صلّت في سرّها و دَعَتِ اللهَ أن يحفظ زوجها و يحفظَ معه كلّ المجاهدين. ثم جلست قرب الموقد تصطلي، و نظرت في وجه أبنائها الثلاثة و أطلقت تنهيدةً سمعتها أمّها التي تسكن البيت معهم، فتمتمت الاخيرة بدعاءٍ يطلب له الحماية و السلامة و العودة إلى أطفاله.
فتحت أم حسن بيت النار و راحت تنكت الجمر فتطاير بعض شرار إلى الخارج، ثم وضعت حطبةً جديدةً تكفيهم عدة ساعات ليناموا في هذه الليلة الباردة من أيام شهر شباط. تبادلت النظرات مع أمها ثم خفضت السراج إلى أدنى مستوى و اندسّت تحت الغطاء لكنّها لم تنم، بل كان كلّ تفكيرها مع زوجها الذي غادر و تركها قرب كوم اللحم. كانت معتادةً على نمط عمله، فهي منذ زواجهما تعلم ارتباطه بالمقاومة و هذا كان شرطه عندما طلب يدها، بأن لا تسأله عن حياته العسكرية و أن لا تحاول التأثير على خياراته، و هي نفّذت الاتفاق دون أي خرق، غير أنها لم تعد قادرةً على كبح عواطفها، خصوصًا و أنها حاملٌ بالطفل الرابع، و كلما زاد عدد الاولاد في البيت استشعرت مسؤوليةً أكبر و زادت مخاوفُها من إكمال المشوار وحدها.
قطع حبلَ أفكارها دويُّ انفجار قذيفةٍ في مجرى النهر تحت البيت، مصدرها تلّة السويداء المقابلة، تبعها صوت رشقاتٍ غزيرةٍ من رشّاشاتٍ ثقيلةٍ في موقع سجد أعلى الجبلِ فوق البيت أيضًا. الله خيرُ الحافظين، الله خيرُ الحافظين..راحت تتمتم و قد احتضنت محمود الصغير النائم في حضنها. ذرفت دمعةً واحدةً ثم نامت.
سار أبو حسن أمام البغلة بسرعةٍ كبيرة اضطرت معها الدابّة أن تحثّ الخطى لتجاريه في مشيته. كان يريد الوصول بأسرع ما يمكن. فهو منذ يومين لم يعرف طعمًا للراحة ولا النوم، و أراد أن ينهيَ الامر بأسرع وقتٍ كي يطمئنَّ قلبُه بلقاء صاحبه و رفيق دربه، و ليبرِّد النارَ التي اشتعلت في صدر أمّ الشهيد، الحاجّة عزيزة، منذ أخبروها بشهادته و تعذّر سحب الجثة لكونها في مرمى النار الصهيونية. و هو شخصيًا تعهد أمامها بأن يعيدَه إليها و لم يعد يطيق نفسه قبل إنجاز وعده.
كان يمشي مطرقًا رأسه إلى الارض، على غير عادته، هو المشهور بهامته المرفوعة و قوامه الصلب. لقد نال منه الخبر المفجع، و كسره، فغدا يمشي محنيّ الظهر، و العينان ثابتتان على صورة جسد صاحبه، وحيدًا منذ يومين، في عراء ذلك الجبل، ينام بين الصخر و زهر القندول و جبوب العيزقان.
لم يكن أبو حسن يحتاج أن ينظر أمامه، فهو يعرف المكان و الغابات في إقليم التفاح كلّه كما يعرف بيته، و كذلك البغلة كانت قد حفظت الطريق لكثرة ما نقلت العتاد على ظهرها من عربصاليم إلى المجاهدين في عقماتا و اللويزة و صافي.
أثناء مسيره، راح يسترجع اللحظة، حين أخبروه:
"انتهت عملية الريحان، و أبو حسن لم يكن ضمن مجموعة الاشتباك المباشر حيث كان مصطفى، بل كان بعيدًا نسبيًا و مهمته الموكلة إليه هي الدعم فقط. و كما كان مخططًا له، بعد انتهاء العمليّة، قام بتحميل الاغراض على ظهر البغلة من سهل عقماتا و شرع يهبط الواديَ باتجاه نبع الطاسة حيث من المفترض أن يجتمع المنسحبون. و لما وصل إلى منطقة النبع، شعر بتغيّرٍ كبيرٍ طرأ على المشهد، و بسبب الظلام الدامس، استطاع بصعوبةٍ بالغة الاستنتاج بأنّ غارةً او أكثر قد ضربت غرفة مضخات المياه التي تغذي جزّين، و حوّلتها إلى خربة. التفّ صوب النهر لكنه كان مرتفعًا كما في هذا الوقت من العام، فاستدار صوب الشرق صعودًا ثم نزل نحو المطحنة حيث كان الباقون باتتظاره.
لم يلتفت في جوف الليل إلى أيّ أمرٍ غريبٍ، و الجميع في مثل هكذا أوقات لا يتكلمون إلا همسًا فالمواقع المحيطة في بئر كلّاب و سجد قد ترصد أي صوتٍ في الوادي الساكن ليلًا.
شرع أبو حسن يجمع الاكياس العسكرية من إخوته المجاهدين. ربطها ببعضها ثم رفعها فوق البغلة، و ما إن همّ بالمسير حتى سمع في أذنه همسًا:
- استشهد صاحبك..
لم يسمع جيّدًا أو هو لم يرد ذلك..
فصاح:
* شوو؟
- سسسسس، لا ترفع صوتك، ما حدا عارف بعد.. مصطفى حيدر استشهد..
لم يبدِ أية ردّة فعل و اعتصم بالصمت و سار، و سارَ خلفه بقيةُ المجاهدين.
خلافًا لعادته، صار يمشي على غير هدىً، تارةً يكون في مقدمة القافلة و تارةً أخرى في آخرها، مما لفت نظر الباقين، و صاح أحدُهم به: شو قصّتك يا أبو حسن؟ شو باك؟
فلم يجب، و بقي صائمًا عن الكلام، و لعله لم يسمع أصلًا، فالصوت الوحيد في أذنيه كان يقول: استشهد صاحبك..
و لما وصلوا عربصاليم، عند طرف النهر، أنزل الاحمال عن البغلة و توجه إلى منزله دون أن يودّع أحدًا، بل تركهم ينتظرون السيارة التي ستقلّهم من هناك، و هو ما اعتاد تركهم قبل حضورها..
دخل البيت فتهلل وجه زوجته لرؤيته، و لاقته بابتسامة القلِقِ الذي زال عنه قلقُه:
-الحمد لله على سلامتك.
*الله يسلمك.. قالها و بالكاد خرجت من فمه.
اغتسل، ثم خرج دون أن يرى الاولاد أو يسألَ عنهم. و قبل بلوغه ساحة البلدة، توقّفت إلى جانبه سيارةٌ، و قال سائقها: اركب.
كان الرابط و معه اثنان من الاخوة.
ركب في المقعد الخلفي، و انطلقت السيارة دون أن يتكلّم أحدٌ من الاربعة فيها، حتّى قال الرابط: أنت كنت معه؟ فلم يجب أبو حسن. ثم سمع طه يقول: خلص، لا تكلّمه! فعاد الصمت يخيّم على الاربعة.
ولما وقفت السيّارة أمام منزل أبي نعيم حيدر جدّ مصطفى، قال الرابط من سيخبرهم؟
حينها فقط انفجرَ أبو حسن باكيًا و بكى معه طه و الباقون.. أفرغ مكنونات صدره المشحون منذ أخبروه، دفعةً واحدةً. هو المعروف بأنه جبلٌ من الصلابة و الرجولة.. انهار كما تنهار جبال الثلج في لحظةٍ.."
و هو غارقٌ في أفكاره، أيقظه صوت لهاث البغلة، فانتبه أنهما صارا قرب نبع الطاسة، و هناك التقى بكريم عطوي نازلًا من صوب السهل.
بعد عناقٍ و بكاءٍ طويلين، بادره كريم: "صاحبك ناطرك بعقماتا. سحبناه اليوم". خنقته العبرة و ما أكمل جملته حتّى توارى خلف الاشجار و أبو حسن جامدٌ في أرضه يتابعه بنظراته. "لا يطول لقاؤكما، تمتم في سرّه، قدرنا في هذه الارض أن نودّع الاحباب، ترى هل ألحق بهما يومًا؟ عساني أفوز أنا الآخر بشهادةٍ تبعد عني ميتة الفراش؟"
في عقماتا حيث الانحدار شديدٌ. وقف قليلًا ليريح البغلة، فهو لم يشعر بالتعب، لأن شغف اللقاء أنساه حتى أن يتعب. و لم يستطع أن يتذكر كيف عبر النهر عند نبع الطاسة و المبنى المدمّر، كلّ ما يعرفه أن مصطفى ينتظره تحت شجرة السنديان وحيدًا، و هو ذاهبٌ إليه.
تابع مسيره و اجتاز المنحدر الشديد بحذرٍ أشدّ، فهذه المنطقة منطقة تسلل و كمائنَ دائمةٍ للصهاينة و فيها حصل الكثير من المواجهات. و لما صار في منطقة السّهل، خفق قلبه بشدّة و أحسّ مفاصلَه تتخدّر و صار عاجزًا عن المشي أكثر.. لقد كان قاب قوسين حين عجز عن التقدم. لم يجهده المسير ولا صعود الجبال، لكنّ نزف العاطفة طوال اليومين الماضيين، أصابه بوهنٍ كبير.
استجمع ما بقي من قوّته و ركب البغلة التي سارت به الامتار الاخيرة.. حتّى وصل..
كان الجسدُ الكبيرُ ممدّدًا تحت سنديانة الاستراحة، و كان الظلام دامسًا، لكنّه استطاع تمييزه لأنّ دلَيله كان قلبه، و لأنّه يعرف صاحبه حقّ المعرفة.
و من على ظهر البغلة، ألقى بنفسه فوق رفيقه و غرقَ في موجةٍ من البكاء، فغسل بدموعه وجهَه و لحيتَه. راح يقبّل كلّ ما بدا له من الجسد الطاهر، قبّل الجبهة العريضة، و الانف المكسور من إصابةٍ سابقة، ثم انكبّ على يديه يلثمهما، و تعلّق بقدميه و حذائه، ثم دسّ رأسه في حجره و غرق في نوبة طويلةٍ من البكاء الصامت و الانين..
كانا لوحدهما، في وسط غابةٍ لا ينفذ إليها ضوءُ القمر، و العدوّ على مرمى حجرٍ منهما. و أبو حسن المعروف بشجاعته و قوّته و رجولته، لم يكن ليبديَ الضعف أمام الناس. لكن هنا، في هذا المكان المعزول، و في هذا الوقت، و مع من قال عنه إنه أبوه و أخوه و معلّمه و رفيق دربه، صريعًا بين يديه، أطلق العنان لقلبه يبثّ شكواه إلى الصدر الذي لطالما احتضنه و احتوى أسراره..
-أحبيبٌ ينادي حبيبه فلا يجيب؟ هل أقعدك موتٌ عن ردّ سؤالي؟ ها أنا يا مصطفى، على الموعد أتيت، ما تأخرت يا توأم الروح.. خذني إليك.. لا أبقاني الله بعدك.. خذني إليك..
غاب في نوبةِ بكاءٍ ثانيةٍ..ثم أحسّ بهواءٍ ساخنٍ لفح وجهه. رفع رأسه ليجد البغلة منحنيةً على الجثمان، تلثمه و قد التمعت عيناها فعرف أنّه لم يكن الحزين الوحيد في هذه الليلة..
و بعد ساعةٍ، سمع وشوشات الجهاز فانتبه مما هو فيه، و ردّ على السائل عن حاله مطمئنًا الجميع عنه و عن صاحبه.
ثم قام بعزمٍ حيدريٍّ نادرٍ، حمل جسد مصطفى الكبير، و وضعه على ظهر البغلة. يقول فيما بعد و هو يستذكر و يبكي: أكاد أقسم لولا كرهي الامر، إن البغلة قد انحنت قليلًا لتساعدني في حمله، فقد كان الشهيدُ أطولَ منّي، و لما وضعت جسده على ظهرها، كانت رجلاه تخطّان في الارض. شددته بالحبل و جعلته يعانق رقبة البغلة، ثم قبّلته بين عينيه طالبًا منه العذر و شكوت إليه قلّة حيلتي. فمن ذا يُقدّم لأخيه جواد المنى؟ وا لهفي عليه محمولًا على ظهر دابّةٍ..حسبك إمامك يا مصطفى، تدوس صدره الخيل..حسبك إمامك..
ثم سرتُ به نزولًا، و اللهِ إن البغلة كانت تمدّ أقدامها بتروٍ كما يفعل الانسان، و لم تنزل مرتفعًا إلا توقفت عنده و هبطت بسلامٍ حفاظًا عليه..
بعكس الاياب، سار أبو حسن على مهله. لم يرِد لهذا المشوار أن ينتهيَ، فقد أراد أن يمضيَ مع حبيبه أطول مدّةٍ ممكنة.. و قد علم أنه متى وطئت قدماه عربصاليم، سيصبح مصطفى ملكًا لكلّ محبّيه، أمّا الآن فهو ملكٌ له وحدَه..
عند نقطة النبع، عاونه الاخوة بحمله و نقله إلى الاسعاف التي اغتنمت فرصة وجود ضبابٍ كثيفٍ لتحمله إلى جرجوع فجباع حيث غسّله أبو حسن و عصّب جبينه بعصبةٍ حمراء مكتوب عليها "يا زهراء"، بعدما قرأ كريم عطوي وصيّةَ الشهيد بذلك. بات مصطفى ليلته في مسجد السيدة نرجس حيث اعتاد الصلاة و الدعاء مع رفاق دربه و سهر الاخوة حوله يتلون آياتِ القرآن.
و في ظهيرة اليوم التالي، في عربصاليم، كان أبو حسن يسير خلف نعشٍ أصفرَ تتزاحم حوله الايدي كأنّه الحجر الاسود، كلٌّ يريد منه البركات.. لم يزاحم أحدًا في حمل صديقه، مكتفيًا بمشوار الامس. و إلى جانبه، سمعَ شابّين يتساءلان: من تراه أحضره من هناك؟ فقال أحدهما: سمعت أنه ليس من هنا. نظرا إليه ففتح يديه و قال: و أنا سمعت مثلكما.. لعلّه ليس من هنا.
ثم سار إلى روضة البلدة.. حيث استودعها رفيق الدرب.. و لم يذرف دمعةً واحدةً، حتى قيل: ما أقساه من رجلٍ، لا يبكي صديقه!